بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام:
الموضوع اليوم الترهيب من الغضب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
(( أوصني قال: " لا تَغْضَبْ " فردّد مِراراً، قال: " لا تَغْضَبْ ))

[ رواه البخاري ]

أيها الإخوة، لو تتبعت النتائج الخطيرة التي يسببها الغضب لعرفت قيمة هذه النصيحة، في ساعة غضب يطلق المرء زوجته، يشرد الأولاد، الشباب ينحرفون، والشابات تنحرفن أحياناً، في ساعة غضب تفك شركة، كان فيها دخل جيد لأسرة عديدة، في ساعة غضب تنشب حروب، لو تتبعت النتائج الوبيلة لغضب الإنسان، على مستوى الفردي والجماعي لكان شيئاً لا يصدق، الإنسان حينما يغضب يعطل تفكيره، حينما يغضب تعطل محاكمته حينما يغضب يتعطل ميزانه، حينما يغضب لا يقدر تبعات الأشياء، وحياتنا كلها موقف غاضب وراءه دمار، دمار أسرة، دمار شركة، دمار مؤسسة، دمار مجتمع أحياناً فالإنسان ماداما مالكاً نفسه رؤيته صحيحة، وقراره صحيح.
إخوانا الكرام:
أفضل نصيحة للإنسان أنه ينبغي أن يرجئ اتخاذ القرار حينما يغضب، لا تتخذ قرار وأنت غاضب، اغضب، توترت، غليت، مرجل، بركان، إياك أن تتخذ أي قرار لا بفصم علاقة، ولا بطلاق زوجة، ولا بإنهاء شركة، ولا بمحاربة أو بمقاطعة لهذا البيت أو لذاك البيت، إياك أن تتخذ قراراً وأنت غاضب، تأكد أن هذا القرار أحمق، قرار مدمر قرار مهلك، فلذلك هذا الحديث على إيجازه، وعلى أنه كلمتان، لا ناهية، وفعل مضارع " لا تَغْضَبْ " قد يسأل سائل كيف لا أغضب، والغضب شعور نفسي وليس إرادي، إذاً معنى الحديث ابتعد عن أسباب الغضب، يقول عمرو بن العاص رضي الله عنه، يسأله سيدنا معاوية يا عمرو ما بلغ من دهائك، يقول عمرو والله ما دخلت مدخلاً إلا أحسنت الخروج منه، فقال له لست بداهية، قال له أما أنا والله ما دخلت مدخلاً أحتاج أن أخرج منه، إذا كنت داهية العرب ما دخلت مدخلاً إلا وأحسنت الخروج منه، فأنا أدهى منك، أنا لا أدخل هذا المدخل إطلاقاً أبلغ.
تروي الكتب التاريخية أن هذا الخليفة معاوية بن ابي سفيان جاءه كتاب من مواطن عادي، يقول كاتب هذا الكتاب:
أما بعد فيا معاوية ـ أنت ما فيك أن تقول للطبيب يا دكتور، وللعميد سيادة العميد، والوزير سيادة الوزير، لا تستطيع ـ أما بعد فيا معاوية، إن رجالك قد دخلوا أرضي، فانههم عن ذلك وإلا ـ مواطن لأمير المؤمنين، لحاكم الشرق الأوسط بأكمله ـ وإلا كان لي ولك شأن والسلام.
فسيدنا معاوية عنده ابنه يزيد، دفع الكتاب ليزيد وقال يا يزيد ماذا نفعل ؟ قال له لأرى أن ترسل له جيشاً، أوله عندك وأخره عنده يأتوك برأسه ـ هذا الحل عند يزيد، فسيدنا معاوية قال له: غير ذلك أفضل، جاء بالكاتب وقال اكتب أما بعد:
فقد وقفت على كتاب ولد حواري رسول الله، ولقد ساءني ما ساءك، والدنيا كلها هينة جنب رضاك، لقد نزلت له عن الأرض ومن فيها ـ يأتي الجواب الثاني ـ أما بعد:
فيا أمير المؤمنين ـ أول كتاب فيا معاوية ـ الثاني، أما بعد فيا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلك من قومك هذا المحل، يأتي بيزيد ويقول له اقرأ، ابعث له جيش ؟! أقرأ، قال يا بني من عفا ساد، ومن حلم عظم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب.
أنت كأب لا تغضب، كزوج لا تغضب، كمعلم لا تغضب، كمدير محل لا تغضب، مدير مؤسسة لا تغضب، الأمر عالجه بهدوء، معقول واحد يدخل على وزير الداخلية، يقول له اسمح لي أن أسرق ؟ هو مهمته ضبط السرقة، معقول أن تطلب منه أن تسرق.
دخل على النبي الكريم شاب وقال له ائذن لي بالزنا، سيد الخلق، حبيب الحق نبي، رسول، قائد، زعيم، شو زنا ؟ فالصحابة غضبوا وقاموا إليه، قال لا، دعوه، تعال يا هذا أتريده لأمك ؟ تصور أمه يزنا بها، فغلى الدم في عروقه، قال له لا، قال له ولا الناس يريدونه لأمهاتهم، تريده لأختك ؟ قال له لا، ولا الناس يريدونه لأخواتهم، تريده لأبنتك ؟ لعمتك ؟ لخالتك ؟ يقول هذا الأعرابي دخلت على رسول وما شيء أحب إلي من الزنا وخرجت من عنده وما شيء ابغض إلي من الزنا، لا تغضب، خليك هادئ.
(( كاد الحليم أن يكون نبيا ))

[ أخرجه الخطيب عن أنس رضي الله عنه ]

والحلم سيد الأخلاق، لكن في فرق بين الدم البارد، وبين الحلم، يقول دخل إنسان يركب مركبة بجسر يتسع لمركبة واحدة، فواجه سيارة أخرى أيضاً وحيدة، فهذا الداخل فرنسي، والذي واجهه إنكليزي، فأراد هذا الفرنسي أن يغيظ هذا الإنكليزي، فمعه بالسيارة قاموس لاروس، فتحه ويتسلى به، ما بيرجع هو، والثاني ما بيرجع، فقال له الإنكليزي عندما تنتهي أعرني إياه، طبعاً الحلم غير الدم البارد الذي لا يحتمل.
أما لا تغضب، لا ببيتك، ولا بعملك، لكن قالوا ما في إنسان لا يغضب، لكن بين أن يظهر غضبك، وبين أن يكون غضبك داخلياً، ذلك لا تستطيع أن تمنع الغضب عن نفسك، لكن البطولة أن يبقى هذا الغضب داخلياً، وأن تبقى بالمستوى الظاهري متوازن هادئ.
الآن في حالة معاكسة، في حالة التغاضب، أحياناً يقول سيدنا عمر حينما غمس بعض أصحابه لشدته، بكى، وقال والله لو يعلم الناس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، ولكن هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى، لذلك الإنسان إذا كان في موقع قيادي، والأمر في تفلت، مسموح له أن يتغاضب، لا أن يغضب، أن يتغاضب، من الداخل هادئ، هذه حالة معاكسة، أحيان تكون من الداخل عما تغلي، لكن الظاهر من في غضب، هذا اسمه كظم الغيظ، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾

( سورة آل عمران )

يقابل كظم الغيظ من الداخل هدوء وراحة، لكن من الخارج في تغاضب، لذلك التغاضب مطلوب أحياناً، أتغاضب ولا أغضب، وفي قول لأحد المفكرين الألمان قال: أنا أرضي أعدائي ولا أسترضيهم.
وفرق كبير بين أن ترضيهم، وبين أن تسترضيهم، الاسترضاء يكون أحياناً بالكلام، والتذلل، والضعف، أما الإرضاء بالفعل، أيام يكون لك خصم بالأسرة ( عديل ) وفي تنافس، وفي عداء، والله نحن نحب، والله كذا، هذا في ضعف، يقول نحن أهل أنت لو جاءك زائراً اكرمه بضيافة، لو طلب منك حاجة لبيه، بتلبية هذه الحاجة ترضيه وبتكريمه بطعام نفيس ترضيه، لكن لا تسترضيه بالكلام، الاسترضاء فيه ضعف، أما الإرضاء في قوة.
فلذلك الإنسان العظيم فعله كبير، وكلامه قليل، والإنسان التافه كلامه كبير وفعله قليل، فهذا المفكر يقول أنا أرضي أعدائي ولا أسترضيهم، إذاً لك أن ترضي دون أن تسترضي، ولك أن تتغاضب دون أن تغضب، ولك أن تتحلم دون أن تكون حليماً، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:
(( إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم ))

[ أخرجه الدارقطني عن أبي هريرة وعن أبي الدرداء ]

وإنما الكرم بالتكرم، فالصفة الأخلاقية أيها الإخوة درسنا الغضب يقابله كفضيلة الحلم، بالمناسبة أية فضيلة هي وسط بين رذيلتين، فإنفاق المال إسرافاً وتبذيراً رذيلة والشح رذيلة، والكرم بين الشح وبين إتلاف المال، الخوف الشديد والجبن رذيلة، والتهور رذيلة، والشجاعة بين الجبن وبين التهور، لو تتبعت كل المكارم الأخلاقية لرأيتها وسطاً بين رذيلتين.
الآن في إنسان غضوب، وفي إنسان دمه بارد، منسوب للإمام الشافعي قول من استغضب ولم يغضب فهو حمار، في إنسان غضوب وفي إنسان دمه بارد، لو أن محارم الله انتهكت ينبغي أن تغضب، وكان عليه الصلاة والسلام يغضب، لم يغضب لنفسه مرة، كان يغضب إذا انتهكت محارم الله عز وجل، لكن أحياناً البنت بثياب نوم شفافة، على الشرفة تنشر الغسيل، والطريق يعج بالمارة، وعيون الشباب نحو هذه البنت، والأب يرى ولا يغضب، لذلك ورد حديث ينخلع له القلب:
(( لا يدخلون الجنة أبدا: الديوث ))

[ رواه أحمد في مسنده والنسائي والحاكم في المستدرك عن ابن عمر ]

من هو الديوث ؟ الذي لا يغار على عرضه، والذي يرضى الفاحشة في أهله والحالة الثانية نادرة جداً، أما الأولى لا يغار على عرضه، يعني زوجته بأبهى زينة تمشي معه في الطريق وهو يرى أن عيون الناس جميعاً تحملق فيها، وهو تأخذه النشوة، هذا بنص هذا الحديث ديوث، لا يغار على عرضه ويرضى الفاحشة في أهله.
فبين الدم البارد الذي لا يحتمل، واحد شاعر وصف شخص دمه بارد قال: لا يبالي، لا يبالي أبداً، وإذا بال، فمن بال يبول، في عندنا بال يبالي، وفي بال يبول، قال لا يبالي فإذا بال فمن بال يبول.
فنحن لسنا مع الدم البارد، تنتهك حرمات الله عز وجل لا يتأثر، لا يغضب أو غضوب لأتفه الأسباب.
والله مرة حدثني أخ: مركبته بكراج يمكن ما كانت منضبطة بمكبح، رجعت قليلاً في سيارة جديدة، بعني شيء من الرفراف تأثر، سب مليون دين، يا لطيف صاحب المركبة، أخذه صاحب السيارة المتسببة بهذا الشيء إلى عند أكبر مصلح أقسم بالله ما استخدم أداة، دخل يده إلى داخل الرفراف، رجع مثل ما كان، قال له كم دين سببت ؟.
المؤمن لو أصبحت مركبته عجينة يقول يا ربي لك الحمد، في شخص يغضب لأتفه الأسباب، وأكثر شيء يأتيني كشكاوى من الأخوات المؤمنات أن زوجها غضوب لأتفه شيء، تأخر الأكل دقيقتين، يسب ويسبسب، ملحة قليلاً الأكلة، الخبزات غير مسخنين النبي دخل إلى البيت قال أعندكم شيء ؟ قالوا لا، قال فإني صائم، ما شيء يأكله، فنحن لسنا مع الدم البارد، تنتهك حرمات الله عز وجل فلا يتأثر، ولسنا مع الغضوب الذي يغضب لأتفه الأسباب، لكن لو أنك غضبت لله هذا غضب مقدس.
والحمد لله رب العالمين
موقع النابلسي للعلوم الاسلامية