المادة التاسعة عشرة من القانون الأساسي للوظيفة العمومية من وجهة نظر دستورية واجتماعية
للأستاذ المحامي الأخضر فنغور
اننا نحاول في هذه العجالة تناول مسألة التعاقد الواردة بالأمر 06/03 المتضمن القانون الأساسي للوظيفة العمومية في الفصل الرابع تحت عنوان عن "أنظمة أخرى للعمل"، وهذا الفصل لم يكن له أي أثر، أو ما يشابهه، بقانون 1966، إلا إذا استثنينا المادة 74 من هذا الأخير التي عالجت قضية الاستمرار في التوظيف عن طريق عقود دائمة إلى غاية نشر القوانين الأساسية الخاصة بكل قطاع
ولقد اخترنا الحديث عن المادة 19 من هذا الأمر لأهميتها في التأثير حتى على اتجاه الأهداف الاستراتيجية للدولة الجزائرية ابتداء من وثيقة الصومام وما تلاها من وثائق ما بعد الاستقلال. حتى أنه تبدى لنا وكأن الدولة تتجه اتجاها قد يعتمد مفهوما جديدا يعيد النظر بشكل كلي في الفكرة الأساسية التي تأسست حولها الدولة الجزائرية الحديثة وليس النظام الذي يمثلها اليوم.
فبادئ ذي بدء يستعمل المشرع بعنوان الفصل الرابع مصطلح "العمل" [1] بدلا من مصطلح "الوظيفة" [2] [3] الذي استعمل في جميع المواد، أما في المادة 19 فقد تم التوصل حتى إلى استبعاد مصطلح "العمل" [4] واستبدله بمصطلح "نشاطات" [5] ونفهم من ذلك أن المهام الموكلة لهذه الفئة لا ترقى إلى مستوى مفهوم العمل، بخصوصياته البشرية، ومن ثم فقد نجحت صياغة النص، في تفادي الخلط بين المصطلحات، وفي أن توضح جليا الإصرار على الإشارة إلى الاختلاف بين النظام القانوني الذي يحكم العلاقة بين الإدارة والموظف حسب المادة السابعة من الأمر 03-06 وذلك الذي يحكم المتعاقدين في المادة 19 من نفس الأمر.
فالأصل أن العلاقة بين الموظف والدولة تحكمها القوانين الأساسية والنصوص التنظيمية، (المادة 07 من الأمر 03-06) بينما العلاقة العقدية فينطبق عليها مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، ولكن إذا كانت الإدارة طرفا فالعقد سيكون بالضرورة عقد إذعان، فهو أقرب إلى العلاقة التنظيمية منه إلى العقد. للأستاذ المحامي الأخضر فنغور ويبدو أن المقصود من هذه المنعرجات، أن يتمكن واضعو هذا النص من توضيح الفئة التي لا يجوز لها اكتساب صفة الموظف، حتى ولو انتمت إلى المؤسسات العمومية للدولة الجزائرية التي يطبق عليها القانون الأساسي للوطيفة العمومية، وهذا ما تنص عليه المادة 22 الفقرة 02 من نفس الأمر التي تتكلم عن حالة الأعوان المتعاقدين المنصوص عليهم بالمادتين 19 و 21 :
"لا يخول شغل هذه المناصب الحق في اكتساب صفة الموظف أو الحق في الإدماج في رتبة من رتب الوظيفة العمومية".
فهذه النشاطات لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تكون موضوعا لوظيفة عمومية، لأن المشرع أخضعها للتعاقد فقط، ويمنع أصحابها من اكتساب صفة الموظف.
ومن ثم فاعتماد هذه المادة من المؤكد أن يؤدي إلى حالة من عدم المساواة بين هذه الفئات المهنية الثلاثة، مع فئة الموظفين بالرغم من انتمائهم جميعا لنفس الهيئة المستخدمة، المتمثلة في المؤسسات والإدارات العمومية.
فالعيب قد صار دستوريا لما كان التفريق قد تم على أساس الانتماء إلى فئة اجتماعية تحددت معالمها بسبب طبيعة العمل الذي تمتهنه. ومن هما نكون على طرفي نقيض مع المادة 29 من الدستور الجزائري التي تؤكد أن كل المواطنين سواسية أمام القانون، ولا يمكن التذرع في التفرقة بينهم لسبب شخصي أو اجتماعي، فنحن هنا، حسب ما يبدو لنا، بصدد ازدواجية في التعامل مع فئتين من جنسية جزائرية، تابعتين لهيئة مستخدمة واحدة، ولكن هذا يمكنه أن ينتمي إليها كموظف والآخر لا يخوله القانون أن ينتمي إليها إلا كمتعاقد، فلا يكونون على قدم المساواة، والمرجع في ذلك اعتبارات اجتماعية، دون إعطاء أي اعتبار لمشاركتهم الفعلية في تحقيق أهداف المؤسسة.
إننا حين نرجع إلى قانون الوظيف العمومي لسنة 1966 نجده قد سبب وجود المتعاقدين بالآثار التي خلفها الاستعمار الفرنسي، وأبقى عليها، كأمر واقع [6]، ولكن لم يحدد فئة المتعاقدين على أساس مهني، بل أخضعها لأمور ظرفية، ولذلك ومنعا لاستمرار الظاهرة فقد حدد استعمال طريقة التعاقد بمجرد استكمال إعداد القوانين الأساسية الخاصة.
وقد تكون أيضا، حسب رأينا، قد استعملت من قبل الإدارة الاستعمارية، إذ أن اشتراط الجنسية الفرنسية للدخول إلى الوظيفة العمومية، آنذاك، قد حد من القدرة على ملء مناصب شغل دنيا كان يرفضها المعمرون، ومن ثم كان التعاقد حيلة لإسنادها إلى الجزائريين.
أمن العدل أن نؤسس قانونا لهيئة من هيئات الدولة، أن تكيل بمكيالين لموظفيها، فهذا توفر له الحماية والاستقرار، وتفتح أمامه باب الترقية، والزيادة في الأجر حسب الأقدمية، والآخر تحرمه حتى من الاستقرار النفسي، وقد يعيش في خوف دائم من فقدان وزيفته، خطؤه الوحيد انتماؤه لفئة مهنية معينة، إن هذا أمر غريب جدا في جمهورية تتسم بأنها شعبية، وتأسست على أكتاف البسطاء من الجماهير، الذين تخجل اليوم من اختلاطهم بقطاع موظفيها، إنه إعداد لعزل جهاز الإدارة عن الشعب، وتهيئتها لتعود كما كانت في حقبة ما نخبوية، لحكم الشعب وليس لخدمته، وخطوة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة.
ومن جهة أخرى فإن طريقة التعاقد، ولاسيما إذ عرفنا أنها من الممكن أن تكون محدودة المدة وقابلة للتجديد، ستضع هؤلاء الأشخاص المتعاقدين، تحت رحمة القائم بالتعيين ليتم التحكم فيهم مثل العبيد، أو ينتظرون الاستغناء عنهم عند نهاية فترة التعاقد. فالمادة 22 تجيز صراحة أن يكون العقد محدود المدة حين تقول : "عن طريق عقود محدودة المدة أو غير محدودة المدة" أي أن القائم بالتعيين حر في اختيار طبيعة العقد، والنفس أمارة بالسوء.
وهذا ما قد يفتح الباب واسعا لإدخال نماذج صورة "الفرَّاش" "والسوَّاق"، في واقعنا الجزائري اليومي، بعد أن تعودنا على رؤيتها فقط في الأفلام العربية، بينما دستورنا لسنة 1996 يصر على أن الإنسان الجزائري حر. إذ يستهل ديباجته بعبارة جميلة وعالية المعاني تمتد جذورها في الماضي العميق وتتطلع لمستقبل بعيد يلفه شموخ شعب هذه الأمة : "الشعب الجزائري حر، ومصمم على البقاء حرا" ويؤكد ذلك في نص المادة 08 منه، حين جعل غاية المؤسسات التي يختارها الشعب، هي القضاء على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان،وليس وضع الميكانزمات التي تكرسه، فهل توجد صورة لشخص مسلوب الحرية ومستعبد، أبلغ من صورة شخص ارتبط مصيره المعيشي مطلقا بإرادة شخص آخر. فالمتعاقد لفترة محددة، من دون ضوابط تحميه من تعسف القائم بالتوظيف، إذ له كامل الحرية أن يبقيه أو يستبدله بشخص آخر دون أن يسأل عن المبرر، سيكون عرضة للتبعية والاستغلال بشكل حتمي، وهذا ما ترفضه بكل صراحة المادة 09 من الدستور إذ منعت بشكل قطعي على المؤسسات إقامة علاقات الاستغلال والتبعية.
لقد كان من الممكن أن يتم التقليل من النتائج غير الطيبة، التي تتركها هذه المادة على مؤسسات الدولة، وكذلك على الناحية الاجتماعية، وذلك لو جُعل اللجوء إلى التعاقد حالة استثنائية مثلما هو الحال في المادة 20 من نفس القانون وأن يكون العقد مؤقتا وأن يكون تجديده لعدد محدود من المرات، فإذا تجاوزها، مع نفس الشخص، أدى إلى انقلابه إلى عقد غير محدود المدة، مع تمتع صاحبه بكل المزايا التي ينص عليها القانون الأساسي للوظيفة العمومية، وحقه في الاستفادة من الأقدمية بالنسبة للمدة التي عملها كمتعاقد، وغلقا لباب التلاعبات فلا بد من النص على الأولية للشخص الذي انتهت مدة عقده، في التعاقد مرة أخرى، في حال بقاء حاجة الإدارة إلى المنصب، أو ظهر لها ذلك ولو بعد مدة، إلا في حالة الرفض الصريح أو الضمني من قبل المتعاقد. لأن حالة التبعية والاستغلال تبدأ منذ أن نترك المجال للإدارة مفتوحا لتحرم الشخص من حقه في تجديد العقد، فتستبعده لتأتي بغيره بدون أسباب قانونية جدية.
ويستحسن أن تشرف على إبرام مثل هذه العقود هيئة رقابية مثل المفتشية العامة للوظيف العمومي، أو اللجان المتساوية الأعضاء، لتؤشر على هذه العقود حرصا على مطابقتها للقانون.
ومن هذا المنطلق تصير الإشارة إلى المادة 19 ضمن المادة 22 ولاسيما الفقرة الثانية منها عديمة الجدوى، مما يتطلب تعديلها جزئيا.
ونتساءل هنا لماذا لم يتم الاقتداء بقانون علاقات العمل الفردية للعمل، (90-11) في هذا الصدد، كما حدث في المادة 21 من الأمر 06-03.
فالقانون 90-11 قد جعل الأصل في عقد العمل أنه غير محدود المدة إلا لظروف استثنائية حددها القانون نفسه، مما يمنع وضع العامل تحت سلطة رب العمل في اعتماد العقود محدودة المدة بشكل مطلق، لأن المشرع آنذاك قد تنبه إلى أن العقد المحدد المدة يسهل ابتزاز العامل والانتقاص من حريته، وحتى المساس بكرامته.
ولقد مرت تجربة التعاقد المحدود المدة بكل مساوئها على قطاع التعليم فيخضع اختيار المتعاقدين (للاجتهادات) الخاصة للمسؤولين، ويستبدل المتعاقد بآخر عند بداية السنة في الكثير من الأحيان، دون أن تجبر الإدارة قانونيا على اتباع أي معيار موضوعي، بل للإدارة الحق المطلق في ذلك دون إعطاء أي تبربر، بالإضافة إلى حرمان المتعاقدين من الاستفادة من حقهم في العطلة السنوية حتى ولو اشتغلوا طيلة الموسم الدراسي، إن حدث انقطاع ولو ليوم واحد، وسيلقى المتعاقدون طبقا للمادة 19 من الأمر 03-06 نفس المصير أو أسوا منه لأن نشاطهم المهني لا يقبل أصلا بأن يكون موضوعا لرتبة من رتب الوظيفة العمومية.
إنه من غير المتصور، بعدما كان الجميع ينتظر إصلاح هياكل الدولة، الذي وعد به رئيس الجمهورية، أن نجد أنفسنا أمام قانون قد يعطي لذوي الضمائر الميتة كوَّة يتسللون منها لممارسة تسلطهم ورغبتهم الجامحة في نشر الفساد، والنيل من معنويات الجزائريين بدفعهم إلى حالة اليأس والإحباط، والشعور بعدم المساواة بعضهم ببعض.
وفي الأخير ما علينا إلا أن نشير إلى أن من مسؤوليات الدولة دستوريا السهر على ضمان المساواة بين جميع المواطنين وإزالة كل العقبات التي تعيق تفتح شخصية الإنسان، بل ومن واجبها حثه على المشاركة الفعلية في النشاطات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، (المادة 31 من دستور 1996). ومن هذا المنطلق فقط، نستطيع الحفاظ على مبدأ العزة والكرامة، وممارسته بشكل فعلي، ولا يمكننا تجسيد ذلك إلا عن طريق القواعد القانونية التي تتسم بخضوعها للدستور الذي يزخر بمبادئ العدالة الاجتماعية والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. وللمجتهد في كل الأحوال أجره ما دام حسن النية ويعمل لبناء وطنه من خلال منظومة قانونية متكاملة ومنسجمة، بإمكانها أن تخلق مجتمعا، لا تتعبنا فيه الحياة، فنتمكن حينها أن نحقق للأجيال القادمة أشياء تذكرنا من خلالها بالخير.
فهل سيجتهد ممثلو الشعب في قراءة هذا القانون، والنظر جيدا فيما يحمله بين طياته من مخاطر على شخصية الإنسان الجزائري الحر، وعلى مفهوم فكرة الدولة الجزائرية الحديثة
المصدر