مقدمــة:
يريد الله عزَّ وجلَّ للإنسان المؤمن أن يكون المعلم للآخرين، ولتحقيق ذلك فإن المولى أعطى المؤمنين أعظم كتاب، الذي إن تدبـَّـروه وتفكـَّـروا فيه حقَّ التدبُّر والتفكـُّـر، فسوف يقصر عليهم مسافاتٍ طويلة في مسائل وأمور معقدة. يقول الحقُّ جلَّ وعَلا: "وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ وَاللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" (البقرة: 282). ويؤكد المولى حقيقة أن القرآن الكريم يحتوي على كافة المعارف من هندسة، وعلوم، واقتصاد، وقضاء، ومعاملات، وغيرها. فيقول سبحانه: "رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً، فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ" (البينة: 2-3).
من أهم ما تُعنى به الهندسة المدنية هو إيجاد المواصفات المثالية للمنشآت، ويمكننا أن نلخص المواصفات المثالية لمنشأ ما بأنه يجب أن يكون خفيف الوزن، متزنـاً، قويـاً، وقاسيـاً بحيث يتحمل الأوزان الواقعة عليه. ونلاحظ أن الإنسان المسلم يلجأ لاجتهاداتٍ ونظرياتٍ مختلفة في هذا المجال ويدخل في دائرة من التجربة والخطأ والتي من الممكن أن تأخذ سنوات طوال.
النحل... مهندس مدني:
وهنا يعلمنا الله عزَّ وجلَّ منهاجاً متكاملاً في الهندسة المدنية عن طريق التدبر في آية 68 من سورة النحل والتي يقول فيها سبحانه: "وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ". حيث يلفت المولى سبحانه وتعالى نظرنا إلى مخلوقاتٍ من صنعه وذلك عن طريق ذكرها صراحةً بالاسم في القرآن الكريم ومن هذه المخلوقات "النحـل".
يعظنا الله عزَّ وجلَّ أن نتفكر في بديع صنعه في هذه المخلوقات، فكل مخلوق منها عبارة عن مدرسة في التصميم الهندسي، وهنا نجد مدرسةً متكاملةً في الهندسة المدنية من التفكر في تصميم بيوت النحل.
فبيوت النحل تتميز بأنها خفيفة الوزن بدليل تعلقها بأغصان الشجر، متزنة بدليل أن آلاف النحل تقطن البيت ولا ينهار، قاسي حيث لا توجد إزاحات كبيرة في البيت من وزن النحل عليه، وقوي بحيث أنه لا ينكسر من وزن آلاف النحل.
فإذا تفكـَّــر الإنسان في كيفية تصميم بيوت النحل بتلك الموصفات المثالية فإنه بذلك يكون قد تعلم من الله كيفية تصميم منشأ يحمل وزناً بمواصفات مثالية كما هو مبين فيما يلي:
- خفــة وزن المنشـأ:
نجد أن الله عزَّ وجلَّ جعل بيوت النحل خفيفة الوزن عن طريق ترتيب الجدران التي تحمل وزن النحل بترتيب سداسي، والترتيب السداسي يضمن تغطية أكبر حجم بأقل كمية من المادة، وبالتالي فهذا يضمن خفة الوزن للمنشأ أي إنشائه بأقل كمية من المادة. فيعلمنا الله عزَّ وجلَّ أن نصمم المنشآت والأساسات بترتيب سداسي للجدران التي تحمل وزنا فيها وليس الترتيب المسمط المتبع حالياً في الهندسة المدنية. ومن فوائد خفة الوزن للمنشأ تقليل التحميل الذاتي له (Dead Load) حيث أن المادة المكونة للمنشأ لا تضع جهداً إضافياً على جدران المنشأ نفسه وهذا يزيل خطر انهيار المنشأ من أثر زيادة وزنه.
- اتـِّــزان المنشــأ:
ضمن الله عزَّ وجلَّ اتزان بيوت النحل عن طريق الترتيب السداسي لجدران البيت، وهذا الترتيب يضمن اتزان المنشأ عن طريق أنه كل ثلاثة جدران في الترتيب السداسي يشد بعضها البعض، بحيث أنه إذا أصبحت هناك إزاحات كبيرة في أحد هذه الجدران فإن الجدارين الآخرين يدعمان هذا الجدار ويقللان من إزاحته وبالتالي يكون المنشأ أكثر اتزانـاً.
- قوة وقساوة المنشـأ:
استخدام الله عزَّ وجلَّ مادة قاسية وهي الشمع لبناء الجدران السداسية لبيوت النحل بالإضافة إلى الترتيب السداسي للجدران والذي يضمن أن كل جدار يشد الآخر، كل هذا يضمن قوة وقساوة المنشأ وقدرته على تحمل وزن النحل.
ولا يقتصر التفكر في بيوت النحل على أفكار تصميم هذه المنشآت المثالية فقط، بل يتعداها إلى الأبعاد التي يجب على المهندس استخدامها في التصميم من ارتفاع، عرض، وزوايا الجدران المستخدمة في التصميم، وذلك عن طريق دراسة بيوت النحل وحساب النسب التي استخدمها المولى كنسبة سماكة الجدار إلى ارتفاعه على سبيل المثال وتكبير هذه الأبعاد على تصميم بحجم أكبر مثل بيت أو مصنع مع إبقاء النسب الموجودة في بيوت النحل.
وهناك في الوقت الحالي دراسات كثيرة في كيفية تصميم منشآت تتحمل الزلازل، ونجد أن المولى يعلم المسلمين كيفية تصميم منشأ يتحمل الزلازل من التفكر في بيوت النحل. حيث نجد بأن اهتزاز أجنحة آلاف النحل الذين يقطنون بيتهم يولد اهتزازات كبيرة جداً أكبر بكثير من أعلى مقياس للزلازل يعرفه البشر وبالرغم من ذلك نجد أن بيت النحل يبقى متزناً ومعلقاً على غصن شجرة. فإذا صمم الإنسان المؤمن المنشآت بنفس تصميم بيوت النحل فأنه بذلك يضمن منشأ يتحمل أي زلزال على أعلى مقياس يعرفه البشر