قاموس التداول لعرض عضلات ثقافية، بل هي معان ومعايير تنقل الواقع الاقتصادي من درجة إلى أخرى ومن مقام الى آخر. وباتت حوكمة الشركات من الموضوعات المثيرة جداً، خصوصا بعد ما وجدت الدوائر الأكاديمية والسياسية والاقتصادية العالمية فيها وسيلة فعالة للتدخل في اقتصاديات الدول النامية تحت عناوين برامج الإصلاح ومتطلبات إعادة الهيكلةوالاهتمام بالجودة والبحث عن عوائد اقتصادية مرتفعة حسب ما يراه صندوق النقد والبنك الدوليين.
وهكذا فقد اختار المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس خلال دورته ال33 موضوع الحوكمة وبناء الثقة عنواناً له. وعلى أثر سلسلة الفضائح في عالم الأعمال الأميركي، أصبح تعبير" الحوكمة الشركاتية" متداولاً ومثيراً لاهتمام عالمي، وأقّر الكونغرس قانون "ساربينزأوكسلي" الذي يشدد القواعد التنظيمية في الحوكمة الشركاتية. وتطورت تداعيات مفهوم حوكمة الشركات إلى الحد الذي أصبح معه المفهوم شعاراً إصلاحياً وجزء من خطاب سياسي اقتصادي للحكومات أو من يقف في مقابلتها. وطرحت آليات مختلفة للتعامل مع استحقاقاته الإدارية والمالية والمحاسبية وكذلك المهنية والأخلاقية. وعليه... ولأن القادم والقريب من الممارسات بموجب تلك الاستحقاقات سيكون تحت هذا العنوان، لذا وجدنا أننا ملزمين أن نضع الموضوع على بساط البحث والتحليل. ماذا يقصد بالحوكمة ؟ هذا اللفظ قدم من قِبل البنك الدولي وصندوق النقد تحت اسم corporategovernance ، وهو ما تم ترجمته للعربية واتفق على تعريفه بالإدارة الرشيدة سواء للشركات تحديدا أو الاقتصاد بصورة عامة واستقر مجمع اللغة العربية في مصر على لفظته (حوكمة) . والحوكمة هي مجموعة من القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف الشركة. وبمعنى أخر, فان الحوكمة تعني النظام أي وجود نظم تحكم العلاقات بين الأطراف الأساسية التي تؤثر في الأداء ، كما تشمل مقومات تقوية المؤسسة على المدى البعيد وتحديد المسؤول والمسؤولية. كما انها الإطار التي تمارس فيه الشركات وجودها ، وتركز الحوكمة على العلاقات بين الموظفين وأعضاء مجلس الإدارة والمساهمين وأصحاب المصالح وواضعي التنظيمات الحكومية ، وكيفية التفاعل بين كل هذه الأطراف في الإشراف على عمليات الشركة. والمقصود بمبادئ "حوكمة الشركات" هو القواعد والنظم والإجراءات التي تحقق أفضل حماية وتوازن بين مصالح مديري الشركة والمساهمين فيها وأصحاب المصالح الأخرى المرتبطة بها . وبينما يمكن اعتبار هذه القواعد مكملة للنصوص الواردة في شأن الشركات في القوانين المختلفة واللوائح التنفيذية والقرارات الأخرى الصادرة تطبيقاً لهما إلا أن ما يعطي هذه القواعد خصوصية ويجعلها مختلفة عن القواعد القانونية المشار إليها هو أن قواعد حوكمة الشركات لا تمثل نصوصاً قانونية , ولا يوجد إلزام قانوني بها، وإنما هي تنظيم وبيان للسلوك الجيد في إدارة الشركات وفقاً للمعايير والأساليب العالمية التي تحقق توازناً بين مصالح الأطراف المختلفة. لذلك فإن هذه القواعد تم صياغتها بما يؤكد طبيعتها الإرشادية، وبما يؤدي إلى شرح أحكامها شرحاً وافياً من دون التقيد بأسلوب الصياغة التشريعية الذي ينهض على الاختصار وتناول الأحكام العامة والمجردة. ظهور حوكمة الشركات : يمكن القول إن ثمة عوامل ارتبطت بالمناخ الاقتصادي في دول العالم ساهمت في خروج مفهوم حوكمة الشركات إلى العلن ، منها: -1 منذ العام 1997، ومع انفجار الأزمة المالية الآسيوية، أخذ العالم ينظر نظرة جديدة إلى حوكمة الشركات. والأزمة المالية المشار إليها، قد يمكن وصفها بأنها كانت أزمة ثقة في المؤسسات والتشريعات التي تنظم نشاط الأعمال والعلاقات في ما بين منشآت الأعمال والحكومة. و كانت المشاكل العديدة التي برزت إلى المقدمة أثناء الأزمة تتضمن عمليات ومعاملات الموظفين الداخليين والأقارب والأصدقاء بين منشآت الأعمال وبين الحكومة، وحصول الشركات على مبالغ هائلة من الديون قصيرة الأجل في الوقت نفسه الذي حرصت فيه على عدم معرفة المساهمين بهذه الأمور وإخفاء هذه الديون من خلال طرق ونظم محاسبية "مبتكرة" . كما أن الأحداث الأخيرة ابتداء بفضيحة شركة إنرون Enron وما تلا ذلك من سلسلة اكتشافات تلاعب الشركات في قوائمها المالية التي كانت لا تعبر عن الواقع الفعلي لها، بالتواطؤ مع كبرى الشركات العالمية الخاصة بالمراجعة والمحاسبة, وهو ما جعل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تصدر مجموعة من الإرشادات في شأن حوكمة الشركات بشكل عام. وهو ما أظهر بوضوح أهمية حوكمة الشركات حتى في الدول التي كان من المعتاد اعتبارها أسواقا مالية "قريبة من الكمال". -2 زاد من حدة الدعوة إلى حوكمة الشركات، ممارسات الشركات متعددة الجنسية في اقتصاديات العولمة، حيث تقوم بالاستحواذ والاندماج بين الشركات من أجل السيطرة على الأسواق العالمية. فرغم وجود الآلاف من الشركات متعددة الجنسية, فإن هناك 100 شركة فقط هي التي تسيطر على مقدرات التجارة الخارجية على مستوى العالم، من خلال ممارستها الاحتكارية. -3 اكتسب مفهوم الحوكمة أهمية كبرى بالنسبة للديموقراطيات الناشئة, نظرا لضعف النظام القانوني الذي لا يمكن معه إجراء تنفيذ العقود وحل المنازعات بطريقة فعالة. كما أن ضعف نوعية المعلومات تؤدي إلى منع الإشراف والرقابة وتعمل على انتشار الفساد وانعدام الثقة. الهدف من الحوكمة : تهدف قواعد وضوابط الحوكمة الى تحقيق الشفافية والعدالة ومنح حق مساءلة إدارة الشركة، وبالتالي تحقيق الحماية للمساهمين وحملة الوثائق جميعا مع مراعاة مصالح العمل والعمال والحد من استغلال السلطة في غير المصلحة العامة بما يؤدي الى تنمية الاستثمار وتشجيع تدفقه وتنمية المدخرات وتعظيم الربحية وإتاحة فرص عمل جديدة .
كما أن هذه القواعد تؤكد أهمية الالتزام بأحكام القانون والعمل على ضمان مراجعة الأداء المالي ووجود هياكل إدارية تمكن من محاسبة الإدارة أمام المساهمين مع تكوين لجنة مراجعة من غير أعضاء مجلس الإدارة التنفيذية تكون لها مهام واختصاصات وصلاحيات عدة لتحقيق رقابة مستقلة على التنفيذ. وتؤدي الحوكمة في النهاية إلى زيادة الثقة في الاقتصاد القومي وتعميق دور سوق المال وزيادة قدرته على تعبئة المدخرات ورفع معدلات الاستثمار، والمحافظة على حقوق الأقلية أو صغار المستثمرين, ومن ناحية خرى تشجع الحوكمة على نمو القطاع الخاص ودعم قدراته التنافسية وتساعد المشروعات في الحصول على التمويل ، وتوليد الأرباح و خلق فرص عمل. مبادئ منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية: تحدد منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إطارا تفصيليا لكي تستوفي الشركات شروط الحوكمة، و ويتم تطبيقها وفق خمسة معايير توصلت إليها وتتمثل في :
-1 حفظ حقوق كل المساهمين: وتشمل نقل ملكية الأسهم واختيار مجلس الإدارة والحصول على عائد في الأرباح ومراجعة القوائم المالية وحق المساهمين في المشاركة الفعالة في اجتماعات الجمعية العامة.
-2 المعاملة العادلة لحملة الاسهم : وتعنى المساواة في التعامل بين كل المساهمين ، وحقهم في الدفاع عن حقوقهم القانونية والتصويت في الجمعية العامة على القرارات الأساسية ، والاطلاع على كل المعاملات مع أعضاء مجلس الإدارة أو المديرين التنفيذيين.
-3 دور أصحاب المصلحة أو الأطراف المرتبطة بالشركة: ويقصد بأصحاب المصالح البنوك والعاملين وحملة المستندات والموردين والعملاء وتشمل الإقرار بحقوق أصحاب المصالح المنصوص عليها في القانون أو عبر اتفاقيات متبادلة، وتشجيع التعاون النشط بين الشركات وبين أصحاب المصالح وتشمل التعويض عن أي انتهاك لتلك الحقوق وكذلك آليات مشاركتهم الفعالة في الرقابة على الشركة.
-4 الإفصاح والشفافية: ضمان الإفصاح الدقيق وفي الوقت المناسب عن كل المسائل المادية التي تتعلق بالشركة، بما في ذلك الوضع المالي والأداء والملكية وحوكمة الشركة. وتتناول الإفصاح عن المعلومات الهامة ودور مراقب الحسابات والإفصاح عن ملكية النسبة العظمى من الأسهم والإفصاح المتعلق بأعضاء مجلس الإدارة والمديرين التنفيذيين ويتم الإفصاح عن كل تلك المعلومات بطريقة عادلة بين المساهمين وأصحاب المصالح في الوقت المناسب ومن دون تأخير. -5 مسؤوليات مجلس الإدارة : وتشمل هيكل مجلس الإدارة وواجباته القانونية ، وكيفية اختيار أعضائه ومهامه الأساسية و ضمان التوجيه الإستراتيجي للشركة، والرقابة الفعّالة على الإدارة من قبل مجلس الإدارة، وضمان مسؤولية مجلس الإدارة تجاه الشركة وحملة الأسهم. وفي النهاية, نود أن نشير إلى أن دور "الحوكمة" لا يقتصر على وضع القواعد والقوانين ومراقبة تنفيذها, لكن يمتد ليشمل أيضا توفير البيئة اللازمة لدعم مصداقيتها وهذا لا يتحقق إلا بالتعاون بين كل من الحكومة والسلطة الرقابية والقطاع الخاص والفاعلين الآخرين بما فيهم الجمهور.