لقد عرف التاريخ منذ القدم نظام إدارة الخدمات البلدية والإشراف على المرافق العامة وتنظيم استخدامها وعرف المسلمون الأوائل كيف يديرون هذا النظام في مدنهم حتى أصبحت مثالاً تحتذي به معظم مدن العالم الأخرى. وساعدت تعاليم الدين الإسلامي على تطوير هذا النظام فمن المبادئ المعروفة في الإسلام والمرتبطة بهذا الموضوع على سبيل المثال أن يكون لدى المسلم وازع من نفسه وقلبه تجاه رعاية حقوق الله وحقوق الغير، وحسن المعاملة في البيع والشراء وما شابهما وعدم بخس المكيال والميزان، وعدم الغش في البيع وغيره، ومن المبادئ المهمة التي يلتزم بها المسلمون بأن لا ضرر ولا ضرار وترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة في المرافق العامة حتى لا يجوز معه مثلاً تضيق الطرق العامة لصالح منفعة فردية بتوسعة أحد البيوت إذا كان ذلك يضر بالطريق العام. وأكد الإسلام في معظم تعاليمه ومبادئه على النظافة ومراعاة حقوق الجار وإزالة الأذى عن الطريق وأجازت الشريعة الإسلامية نزع الملكية الخاصة لصالح المنفعة العامة والمحافظة على المقابر والمرافق المختلفة كالماء والأشجار وما في حكمها وغير ذلك من المبادئ السامية التي شرعها الإسلام تنظيماً لحياة الناس وعلاقاتهم ومساكنهم. مما جعل الإسلام مرتبط بنشأة وبزوغ وعمران نهضة المدن الإسلامية التي اشتهرت وازدهرت في تنظيمها وعمرانها فكانت عنواناً للحضارة والرقي والتطور آنذاك.
وفي وقتنا الحاضر يلمس المتابع لحركة التطوير والتحديث والرقي التي تعيشها العواصم والمدن الكبرى في معظم أنحاء العالم الدور الهام والكبير الذي تؤديه البلديات لمواكبة هذه الحركة واللحاق بركب التطور ومواجهة الأعباء العديدة والمتنوعة والمتجددة التي تلازم عمليات التغيير والتنمية وما يتطلبه ذلك من استعداد فني وتنظيمي لتطوير أساليب وطرق الأداء وتنمية العنصر البشري وتدريبه وتطويره ليواكب الحدث فالبلديات ملتزمة بالعناية بالنظافة والتنظيم وخدمات المدينة البلدية والعمل بكل ما من شأنه تجميل المدينة وظهورها بمظهر حضاري راقي ولها حق الرقابة على مصالحها ومرافقها وتطبيق الأنظمة والقوانين والتعليمات التي سنتها واتخاذ الإجراءات الجزائية اللازمة بحق المخالفين لها. وتسعى البلديات بكل طاقاتها البشرية والتنظيمية للوصول بالمدن إلى مستوى عال من الجمال والنظام فواقع المدينة الجمالي والتنظيمي يعكس في نظر الآخرين مدى التطور والتحضر الذي وصلت إليه الدول ويعطي للزائرين انطباعاً بمدى ثقافة ووعي سكانها وتقديرهم للجمال والنظام وذلك من خلال ما يرونه من منشآت وشوارع وأحياء ومساكن فهي المقياس الحضاري السلبي والإيجابي للمدن.

ومن خلال عملي كمعماري أتساءل دائماً عن مدى الحرية المعمارية المعطاة لأي فرد من المجتمع في مجال العمارة والعمران في مدننا والتي تبدأ حدودها منذ اختياره لقطعة الأرض المراد إقامة مسكنه عليها ثم التخطيط والتصميم لتنفيذ هذا المسكن وأخيراً العيش فيه والتعامل مع مكوناته وما حوله داخل الحي السكني فبداية أجد في قوانين التصميم المعماري والعمراني وتعليمات وأنظمة البناء الصادرة من البلديات مرونة كبيرة تعطي للمالك وللمصمم سواء في التصميم المعماري للوحدة السكنية أو باختيار مواد البناء المستخدمة ولكن مع هذه المرونة فصاحب المسكن يلتزم بتنفيذ كل الأنظمة والتعليمات حتى يحصل على شهادات إدخال المياه وتوصيل التيار الكهربائي إيذاناً بانتهاء تنفيذ مسكنه وقلة ارتباطه بالبلدية وهنا يبدأ


تنفيذ ما يخالف الأنظمة والاشتراطات البلدية داخل وخارج الوحدة السكنية مستغلاً فجوة قلة مراقبة المباني بعد انتهاء البناء وعدم وضوح الرؤيا في قوانين واشتراطات وأنظمة البلديات وضعف الجزاءات وعدم الحرص على تطبيقها عندئذ تبدأ مظاهر انفراط الحرية الشخصية المعمارية لدى أفراد المجتمع فهناك مظاهر كثيرة لذلك الانفراط نتيجة لضعف الوعي الثقافي والحسي والجمالي لدى البعض وغياب الرادع الجزائي الذي يحد من بروز تلك المظاهر ولعل في النقاط التالية بعض مظاهر ذلك الانفراط:

- غياب التجانس والتناسق في ألوان واجهات بعض المنازل واختيار ألوان عشوائية غير مترابطة في دهان الواجهات مما يكون له تأثير سلبي على الرأي وعلى المنازل المجاورة لها.

- ترك المنازل والعمارات السكنية دون ترميم داخلي وخارجي لمدة زمنية طويلة وبروز مظاهر القدم والتشربات والتشققات على واجهاتها مما يؤثر على المظهر العام للحي أو الشارع ويكون التأثير واضحاً إذا كانت تلك المباني على شوارع رئيسية.

- احتلال مساحات من الأرصفة المجاورة للمساكن كبروز لمشب (مكان إشعال النار) في الملحق الخارجي أو بروز لمكيفات أو ملئه بالأحواض الزراعية والتي يؤول مصيرها إلى مكان لتجميع الزبالة.

- اقتناص مساحات من الشارع المجاور لإقامة مظلات للسيارات قد تكون من القماش بجوار السور أو أخذ جزء من الشارع وإقامة مزلقان عليه لدخول السيارة في حال كون مستوى أرضية المنزل أعلى من مستوى الشارع بصورة كبيرة.

- تحويل مواقف السيارات في معظم العمارات السكنية إلى مستودعات وتأجيرها وقفلها أمام السكان لأسباب فنية وأمنية مما يؤثر على الشوارع المجاورة للمبنى جراء تكدس وازدحام السيارات فيها.

- تنفيذ السواتر المعدنية أو الخشبية أو غيرها دون ضوابط وبشكل عشوائي غير مدروس وبارتفاعات هائلة وبأشكال تؤثر بشكل سلبي على كل ما حولها من مباني وبالتالي على المظهر العام للحي.

- ضم الارتداد النظامي حول المبنى (مترين جهة المجاورين وخمس الشارع المجاور بحيث لا يتعدى الستة أمتار) إلى المبنى الرئيسي وسقفه أو إقامة مباني عليه مما يفقده الوظيفة التي أنشئ من أجلها.

- ربط الملاحق الخارجية مع مبنى الفيلا الرئيسي وضم مساحة المترين المفروضة بينهما حسب النظام بحيث يكون مبنى الفيلا الرئيسي والملاحق الخارجية كتلة بنائية واحدة.

هذه بعض المظاهر التي تحتاج إلى إيجاد الحلول للحد من تجاوزها وعلى البلديات تطوير أدائها لتشمل القوانين والأنظمة التي تقضي على تلك التجاوزات فصلاحيات البلديات لدينا محدودة تحتاج إلى توسيع ففي بعض مدن العالم تشمل واجبات البلدية مختلف الشؤون والخدمات البلدية التقليدية وتتجاوزها إلى رعاية الطفولة والأيتام والمسنين ومحاربة التسول والوقاية من الحرائق كما في بلدية أنقرة في تركيا وفي مدينة دالاس بالولايات المتحدة الأمريكية تشمل صلاحيات البلدية الإطفاء والشرطة والمحاكم البلدية.

أما الخطوات الأهم التي أرى أن تبدأ البلديات بمراعاتها فهي كالتالي:

- دراسة ظاهرة التجاوزات ووضع القوانين والأنظمة والمعايير التي تحد من الإفراط في الحرية الشخصية المعمارية لأفراد المجتمع وتحديد الجزاءات المترتبة على المخالفين لها.

- تطوير وتدريب العناصر البشرية في جهاز البلديات وبالأخص ما يمس الجانب الرقابي والمهني بما يتواكب مع المرحلة التطويرية والنهضة الحضارية التي تعيشها بلادنا.

- توسيع نطاق عمل البلديات بحيث تشمل صلاحياتها كل ما من شأنه تطوير المدينة وإبراز جمالها وتنظيمها فمن خلال ذلك يحكم علينا الآخرون سلباِ أو إيجاباً.

- تطوير الشراكة بين البلديات والقطاع الخاص (المؤسسات والشركات والبنوك) لخلق العديد من المصالح التي تعود بالنفع على جميع المشاركين تساعد في تطوير وتنظيم المدينة وتجميلها.

- رفع مستوى الوعي المعماري والعمراني والجمالي لدى أفراد المجتمع من خلال وسائل الإعلام المختلفة وقد يكون للجمعية السعودية لعلوم العمران والهيئة السعودية للمهندسين الدور الفاعل في تحقيق هذا الهدف من خلال ما تقدمه من برامج وندوات وملتقيات تهتم بهذا المجال.

- تطوير دور المجالس البلدية وتقريب الفجوة بينها وبين أفراد المجتمع عن طريق إيجاد صيغة معينة لإنشاء مجلس الحي لنقل واقع الأحياء إلى الجهات المسؤولة وأصحاب القرار.