المطلب الرابع : تسوية المنازعات الناجمة عن تحصيل الإشتراكات :
يشكل تحصيل اشتراكات الضمان الإجتماعي إحدى الإنشغالات الرئيسية الدائمة لهيئات الضمان الإجتماعي لأنها المورد الوحيد لضمان الأداءات التي يقدمها يوميا للمؤمن لهم اجتماعيا .
و لضمان تحصيل هذه الإشتراكات خول القانون لهيئات الضمان الإجتماعي بعض الإمتيازات تتمثل في إجراءات استثنائية لها طابع قسـري لأجل تحصيـل الأموال المستحقـة إذ تعتبر هذه الوسائل من امتيازات السلطة العامـة و يعتبر القرار المتعلق بالتحصيل قرارا نافذا بحد ذاته و ملزما للمدين ، يصدر عن إدارة الصندوق ، كعمل تلقائي لا يحتاج إلى موافقة الغير و لا لحكم قضائي .
فإذا لم يبادر أصحاب العمل إلى تسديد الإشتراكات و المبالغ المستحقـة ضمن الآجـال القانونية المحددة يصبح الصندوق مضطرا إلى إتباع الإجراءات التي خولها إياه القانون لتحصيل أمواله و ذلك بإتباع الطرق التالية :
الفـرع الأول : إنـذار المديـن :
إذ إنتهت الفترة المحددة للتسديد يتوجب على الصندوق و قبل أي إجراء بأن يوجه إنذار إلى المدين المتخلف عن التسديد ، وهو الإجراء الذي نصت و أكدت عليه المادة 57 فقرة 01 من القانون 83/15 المعدلة بالمادة 16 من القانون 99/10 إذ جاءت بمايلي :
"يجب أن تسبق كل متابعة أو دعوى تحركها هيئـة الضمان الإجتماعي الدائنة بإنـذار يدعو المكلف بتسوية وضعيته في ظرف خمسة عشر 15 يوما التالية لإستلام الإنذار ". و هو الإجراء نفسه المتبع في فرنسا (1) .
لم يحدد المشرع الجزائري شكل هذا الإنذار أو مضمونه ، إلا أن من بين البيانات التي يجب أن يتضمنها نذكر مايــلي :
- مقدار مبلغ الإشتراكات المطالب بها .
- الزيارات التأخيريــة .
- الفترات التي تعود إليها المبالغ المطالب بها .
- مهلة 15 يوما – مهلة التسوية .
- توقيع مدير الهيئة .
- إسم المدين و عنوانه بالكامل .
كما أن المشـرع و من خلال قراءتنـا لنـص المادة 57 من القانــون 83/15 يتبين لنـا أنه لم ينص صراحة على الطريقة التي يتم بها تمكيـن المدين من الإنذار غيـر أن عبـارة " لاستلام الإنـذار" تعني أن مهلة التسوية لا تسري إلا من تـاريخ تمكين المعني من الإنذار وذلك بإرساله بموجب رسالة مضمنة الوصول مع إشعار بالإستـلام ، لكن ماذا عن حالة أن يتسلـم الإنـذار شخص غيـر مدين ؟ أو في حالة الإستحالة المادية لا بلاغه كأن يكون المدين مسجونا مثلا ؟ ففي هذه الحالات هل تسري أعمال التحصيل ؟ المشرع الجزائري لم يجيبنا على هذه الوضعية لذلك نجد في واقعنا العملي الكثير من القضاة عند التأشير على الملاحقات يشترطـون في تبلـغ الإنذار أن يكون عن طريق محضر قضائي .
أما المشرع اللبناني فوجد الحل في التبليغ عن طريق مأمور التبليـغ مقابل محضـر يحرره ويبقى الإنذار صحيحا لكل ما يتضمنه حتى و لو تضمن عبارة (2) " دون المساس بزيادات التأخير التي تستمر في السريان حتى تاريخ الدفع النهائي. " ويبقى صحيحا حتى و إن وقع خطأ على مقدار الإشتركات .
الفـرع الثــاني : طلب التحصيل عن طريق الضرائب
وهو الإجراء المنصوص عليه في المادة 59 من قانون 83/15 المعدلة بالمادة 18 من قانـون 99/10 وطلب التحصيل مماثل " للإكراه البدني " LA CONTRAINTE" الوارد ذكره في المادة 244 فقرة 02 من قانون الضمان الإجتماعي الفرنسي (1) .
إذا يوقع مدير الهيئة كشف المبالغ المستحقة ثم يؤشر عليه والي الولاية في أجل 20 يوما وبذلك يصبح نافذا ويرسل إلى قابض الضرائب مباشرة بمحل إقامة المكلف – المدين – ويمكن تحديد إجراءات طلب التحصيل في مايلي :
- أن يكون الدين مثبت ومعلوم ويتضمن جميع الديون .
- يستوجب وجود إنذار مبلغ حسب الأصول إلى المدين .
- أن يرفق الطلب ببيان عن الدين يتضمن : مقداره ، نوعه .
- لا يجوز أن يتضمن طلب التحصيل مبالغ تفوق تلك الواردة في الإنذار .
- لابد أن يصدر بعد إنقضاء مهلة الإنذار .
وفور وصوله إلى إدارة الضرائب تقوم هذه الأخيرة بإخطار المدين بوجوب دفع مبلغ الدين بواسطة إخطار ترسله إلى المدين شخصيا في محل إقامته الحقيقي.
الفرع الثالث : الملاحقـة القضائيــة :
نصت المادة 60 من قانون 83/15 المعدلة بالمادة 19 من قانون 99/10 على مايلي :" عند إعتماد إجـراءات ملاحقة المكلف يوقع كشف المبالغ من قبل مدير هيئة الضمان الإجتماعي الدائنة ، ثم يؤشره رئيس المحكمة المختصة بالقضايا الإجتماعية في غضون 15 يوما وبذلك يصبح تحصيل هذه المبالغ نافذا ".
أ/ – إعداد كشف المستحقات : يتم إعداد كشـف المستحقات من قبل مصالــح
الضمان الإجتماعي الذي لا يتعلق إلا بالاشتراكات المصرح بها أو المحـددة
من طرف العون المراقب بالإضافة لغرامة التأخير و زيادات التأخير ويتضمن
الكشف (2) مايلي :
- يجب أن تكون المستحقات ثابتة نقدا وحالة الأداء .
- أن لا يكون المدين قد تحصل على جدول دفع بالتقسيط .
- أن يكون المدين قد إنذاره طبقا لأحكام المادة 57 من القانون 83/15 .
بعد ملئ الكشف يتم إمضاءه من قبل مدير الصندوق طبقا للمادة 59 من القانون 83/15 .
وبعد إعداد الملاحقة التي تأخذ شكل أمر الأداء المنصوص عليه في المادة 174 من قانون الإجراءات المدنية وتوقيعها من قبل المدير تقدم للقاضي للتأشير عليها لتحوز الصيغة التنفيذية .
ب – تبليغ الملاحقة للمكلف : عند إكتساب الملاحقة الصيغة التنفيذية يتم تبليغها للمكلف من طرف عون مراقب محلف تابع للهيئة ومعتمد من قبل الوزارة ويكون للمكلف حق الأعتراض أمام لجنة الطعن الأولى في أجل مدته 15 يوما من تاريخ التبليغ عن طريق رسالة خطية ، وإذا أصبحت الملاحقة نهائية تنفذ بنفس الشروط التي تنفذ بها الأحكام القضائية طبقا للمادة 63 من القانون 83/15.
إلا أن الكثير من القضاة عمليا يمتنعون عن التأشير على الملاحقات لأن في نظرهم أن التصريحات الواردة فيها لاتعتبر إعترافا بالدين ، وهناك من يشترط لتصبح ممهورة بالصيغة التنفيذية أن تبلغ عن طريق محضر قضائي.
المبحـث الثانـي : دور القـاضـي في منازعات الضمان الإجتماعي
إن تكريس المشرع الجزائري للتسوية الداخلية لمنازعات الضمان الإجتماعي و جعلها هي الأصل في تصفية هذه المنازعات جعل دور القاضي سلبيـا في هذه المرحلة ، ما عدا ظهوره من خلال ترأسه للجنة العجز الولائية و ماعدا ذلك لا نجد أي دور للقاضي قد يلعبه في هذه المرحلة ، و هو الأمر الذي يتنافى و ما تسعى إلى تكريسـه المواثيــق و التوصيات الدولية خاصة منها توصيات منظمة العمل الدولية ، التي تنص على وجوب أن تعرض المنازعات على هيئات مستقلة عن السلطة الإدارية التي أصدرت القرار محل الإعتراض و هذا حتى لا تصبح المراجعة وهمية.
و على عكس المشرع الجزائري فلقد أعطت بعض التشريعات مهمة التسوية الداخلية و الودية لمنازعات الضمان الإجتماعي إلى محاكم خاصة يترأسها قضاة بمساعدة ممثلين عن العمال و أصحاب العمل و هو ما كرسه القانون الفرنسي بإنشائـه ( ( لمحكمة شـؤون الضمـان الإجتمـاعي (1) )) و هي المختصة بحل جميع المنازعات كدرجة أولى يرأسها قاضي يساعده ممثلين إثنين و تكون قراراتها قابلة للإستئناف أمام الغرفة الإجتماعية لمحكمة الإستئناف. و نفس الطريق سلكه المشرع اللبناني بإنشائه (( لمجلس العمل التحكيمي (2) )) الذي ينظر في منازعات الضمان الإجتماعي كدرجة أولى و الذي يترأسه قاضي يعينه وزير العــدل و يساعده ممثلين إثنين واحد عن أصحاب العمل و الآخر عن الأجـراء.
لذلك فالحديث عن دور القاضي في منازعات الضمان الإجتماعي في ظل تشريع الضمان الإجتماعي الجزائري لا يظهر إلا عند لجوء أطراف النزاع إلى القضاء ، و هنا لا يقتصر دوره على مجرد الفصل و البت في موضوع المنازعة فحسب بل يتعداه إلى أكثر من ذلك ،و هذا ما سوف نبينـه من خلال هذا المبحث ، بعد معرفة إختصاص كل قاضي بحسب طبيعـة كل منازعـة.
المطلـب الأول : دور القاضـي في المنازعات العامـة :
لقد منح القانون 83/15 المؤمن له أو ذوي حقوقه و أصحاب العمل الحق في اللجوء إلى القضاء في حالة عدم تسوية النزاع وديا من قبل اللجان المختصة بحسب طبيعة كل منازعة ، و لم يضع المشرع لذلك إجراءات خاصة في رفع هذه الدعاوي بل العكس من ذلك فلقد جعل إجراءات التقاضي مبسطة ماعدا إحترام إجراء رفع الطعن المسبق أمام اللجان المختصة.
و تخضع هذه الدعاوي من حيث الإختصاص إلى المحاكم الفاصلة في المسائل الإجتماعية و ذلك نظرا للطابع المميز للمنازعات العامة ، غير أنه يتعين الإشارة إلى وجود بعض المنازعات حتى و لو كانت من حيث وصفها
تدخل في مجال المنازعات العامة غير أنها من حيث الإختصاص يؤول النظر فيها إلى القاضي المدني و الإداري و الجزائي (1) كما سيأتي شرحه لاحقــا.
الفـرع الأول : إختصـاص القاضي الإجتماعـي :
نصـت المادة 13 من قانون 83/15 على ما يلـي :
((ترفع الخلافات من قبيل المنازعات العامة كما جاء تعريفها في المادة 02 و 03 أعلاه إلى المحكمة المختصة بالقضايا الإجتماعية )).
كما نصت المادة 14 من ذات القانون و المعدلة بالمادة 08 من قانون 99/10 في فقرتها الثانية على ما يلي : (( ترفع الإعتراضات على القرارات الصادرة على لجنة العجز المسبق في مرحلة إبتدائية إلى المحكمة الفاصلة في القضايا الإجتماعية في ظرف شهر (01) بعد تبليغ قرار اللجنة أو في غضون 03 أشهر إبتداءا من تاريخ إستلام العريضة إذا لم تصدر اللجنة قرارها)).
و نصت المادة 15 من القانون 83/15 كذلك على أنه : (( يجوز لهيئات الضمان الإجتماعي أن تحيل الأمر إلى المحكمة المختصة بالقضايا الإجتماعية بالنسبة لجميع الدعاوي و الملاحقات التي ينص عليها القانون)).
و يتعلق موضوع الدعاوي في هذا الإطار حول منح الأداءات العينية و النقديـة و إستحقاق المؤمن لهم أو ذوي حقوقهم لها من عدمه أو حول الأداءات الناتجة عن حوادث العمل و الأمراض المهنية ، و كذا المنازعات المتعلقة بالإنتسـاب.
أما الدعاوي التي يكون طرفيها هيئات الضمان الإجتماعي و أصحاب العمل فهي في الغالـب تنصب حـول الملاحقات القضائيــة و الغرامات و الزيادات التأخيريـة.
و في كل هذه الحالات و غيرها يجوز لكل من المؤمن له و ذوي حقوقه أو أي مستفيد آخر و كذلك لهيئات الضمان الإجتماعي و أصحاب العمل اللجوء إلى المحاكم الفاصلة في المواد الإجتماعية للمطالبة بحقوقهـم.
الفـرع الثانـي : دور القاضي الإجتماعي في المنازعات العامـة :
إن دور القاضي الإجتماعي لا يقتصر على الفصل في النزاع فحسب لكن تدخله أثناء سير الدعوى هو تدخل إيجابي من أجل السهر على حسن تطبيق القانون و حماية حقوق المؤمن لهم و يمكن إبراز هذا الدور من خلال النقاط التاليــة :
أ- دوره في التحقق من طبيعـة المنازعة : كثيرا ما يخطأ القضاة عندما لا يفرقون ما بين المنازعة العامة و المنازعة الطبية ، و هذا راجع إلى تميز منازعات الضمان الإجتماعي عن غيرها من الدعاوي لكونها أكثر تقنيـة و أكثر تعقيدا و في غالبية الحالات تتداخل الإجراءات ، و هذا لتعلق هذه المنازعات بآجال متعددة و بالطعون أمـام اللجان المختصة ، إلى جانب عدم ضبط مفهومها و مجالها بدقة من قبل المشرع ، مما يجعل عملية تحديد طبيعة المنازعة مسألة صعبة بالنسبة للقاضي لكن هذا لا يعفيه من التحقق من نوع و طبيعة النزاع المطروح أمامه لأن تحديد ذلك يرتب أثار هامة نذكر منهـا :
ـ تحــديـد القـــاضـي المـخـتــص.
ـ تحديد مراكز الأطراف و صفتهم في الدعوى.
ـ تحديد جهة الطعن التي يجب أن يرفع إليها الإعتراض.
و مسألة تحديد طبيعة المنازعة من طرف القاضي و الدور الإيجابي الذي قد يلعبه في ذلك من المسائل القانونية الهامة التي أكدت عليها إجتهادات المحكمة العليا (1) في هذا الشأن و التي ترى ضرورة تحديد طبيعة النزاع قبل أي إجـراء آخـر.
ب- دور القاضي الإجتماعي في التحقق من صحة إجراءات رفع الدعـوى : بعد أن يتأكـد القاضي من طبيعة المنازعة و من إختصاصه للنظر فيها ينتقل إلى التحقق من مدى مراعاة صاحب الدعوى للشكل المطلوب و من إستيفاءه القيد الذي وضعه القانون إذ نصت المادة 06 من القانون 83/15 المعدلة بالمادة 02 من القانون 99/10 على ما يلي : " ترفع الإعتراضات التي تتعلق من حيث طبيعتها بالمنازعات العامة إلى لجان الطعن المسبق المنصوص عليها أدناه قبل اللجوء إلى الجهات القضائية المختصة" ، إذ لا يجوز للمؤمن له أو ذوي حقوقه و كذا أصحاب العمل من اللجوء إلى القضاء دون تقديمهم للإعتراض أمام لجان الطعن المسبق المشكلة لهـذا الغـرض و هو إجراء من النظام العام يثيره القاضي من تلقاء نفسه ، و أثر تخلفه هو عدم قبول الدعوى شكلا.
و دور القاضي هنا هو التحقق من مدى إستيفاء الدعوى لهذا القيد الذي وضعه المشرع ، و عليه في ذلك أن يفرق ما بين الإعتراض أو أي شكوى أو طلب آخر من النوع الذي يرفعه المؤمن له إلى مدير هيئة الضمان الإجتماعـي.
لذلك فسلطته الواسعة تخول له تفحص أوراق الملف و مستنداتــه و البحث في ما إذا كان الطلب المرفوع إلى الهيئة هو طلب إعتراض أم شكوى عادية ، فقد تتشابه الأمور على القاضي و قد يعتبر أي شكوى إعتراض و بالتالي يقبل الدعوى فالحكم بهذه الصفة هو خرق للقانـون.
و يقع عبأ تقديـم الدليل على عرض النزاع على لجان الطعن على عاتق أطـراف الدعوى.
ج ـ سلطة القاضي الإجتماعي في التحقق من طبيعة الحادث أو المرض :
عند قيام منازعة حول تحديد طبيعة و صفة الحادث أو المرض الذي
أصاب العامل و الظروف المحيطة به ، أو أن تكون المنازعة حول عدم التصريح في الآجال المنصوص عليها ، فإن للقاضي دور كبير يناط به في تقرير ذلك و هذا نظرا للآثار الهامة التي يرتبها القرار الذي سوف يتخذه في هذا الشأن ، فبمجرد أن يقرر بأن الحادث أو المرض الذي أصاب العامل ذو طابع مهني ينشأ للعامل المصاب الحق في الآداءات و التعويضات اليومية دون أي قيد (1) و هو الأمر الذي تكون له أثار سلبية على الطرف الآخر أي الصندوق الذي سوف يتحمل كل الأعباء المالية و هو الذي من شأنه أن يؤثر على توازنه المالي.
إذ يبحث القاضي من خلال أوراق الملف في ملابسات و ظروف الحادث أو المرض الذي أصيب به العامل ، و في هذه المسألة فهو غير ملزم بما يقدمه الأطراف من حجج أو أوجه دفاع ، بل له السلطة التامة في تقرير أدلة الدعوى و البحث في مستندات الملف لإستخلاص الصحيح منها ، و له في هذا الشأن أن يجري تحقيقا في الأمر أو أن يستعين بأهل الخبرة و الإختصاص ليستكمل جمع الأدلة و القرائن و له في ذلك السلطة التقديرية الكاملة ، و عند ذلك يبقى التقرير الذي يعده الخبير بعد تعيينه مجرد عنصر من عناصر الإثبات في الدعوى ، و لا يقيد القاضي في شيء و تقدير نتائجه من السلطات التي يستقل بها قاضي الموضوع و لا معقب عليه متى أقام قضاءه على أسباب صحيحة ، و كذلك الشأن إذ أمر بإجراء تحقيق مدني ، فإستخلاص الواقع من شهادة الشهود هو من الأعمال المخولة للقاضي دون أن يلزم ببيان ترجيحة لشهادة على أخرى ، و في هذا الصدد أقرت محكمة النقض المصرية في قرار لها حول واقعة إثبات حادث عمل ما يلي :
((…. و لما كان تقدير أقوال الشهود و إستخلاص الواقع منها هو ما تستقل به محكمة الموضوع و لا سلطان لأخر عليها في ذلك إلا أن تخرج بتلك الأقوال إلى غير ما يؤدي إليها مدلولها و كانت محكمة الموضوع قد إطمأنت إلى أقوال شهود المطعون ضدهم و إستخلصت أن الحادث وقع أثناء العمل و بسببه فإن النعي بهذا الوجه لا يعدو أن يكون جدلا موضوعيـا في تقدير الدليل و هو ما لا يجوز إثارته أمام محكمة النقض (2) )). (الطعن رقم : 1261 لجلسة 26/05/1986.)
الفـرع الثالث : سلطة القاضي الإجتماعي في مراقبة مدى صحة إجراءات الملاحقـة :
لقد أجاز القانون 83/15 لهيئة الضمان الإجتماعي بموجب المادة 58 منه المعدلة بالمادة 17 من قانون 99/10 في حالة إنقضاء الأجل الممنوح للمكلف و عند عدم تسوية وضعيته بتسديد مستحقات الهيئة و عدم عرض أمره على لجنة الطعن الأولى باللجوء إلى إجراءات الملاحقة القضائيـة قصد تحصيل المبالغ المستحقة المطالب بها ، و هو إجراء يشبه من حيث شكله و إجراءاته إلى حد بعيد أمر الأداء المنصوص عليه في المادة 174 من قانون الإجراءات المدنية ، و حتى لا يكون هناك تعسف في إستعمال الحق ، فلقد تم إخضاع مراقبة مدى صحة إجراءات الملاحقة إلى القاضي الإجتماعي لأنه هو الأدرى بقوانين الضمان الإجتماعي من جهة ، و هو القاضي المختص و إثارتنا لهذه النقطة ماكانت لتكون إلا لأن بعض المحاكم مازالت تعطي إختصاص التأشير على هذه الملاحقات لرئيس الجهة القضائية أي لرئيس المحكمة معتبرين إجراءات الملاحقة مثلها مثل إجراءات أمر الأداء.
و يكمن دور القاضي الإجتماعي هنا في مراقبة مدى صحة الإجراءات السابقة للملاحقة و شكل و مضمون الملاحقة ذاتها و في هذا الشأن عليه التأكد من توافــر و مراعاة الهيئة لما يلـي :
1) ـ التأكد من وجود الإنذار و صحة تبليغه للمعني تبليــغا صحيـحا
ينفــي الجهالة عن علمـه بـه.
2) ـ يتأكد من المبالغ المستحقة بما فيها الغرامات التأخيرية و تطابـق
ذلك مع ما هو مذكور في الإنـذار.
3) ـ يتأكـد مـن ذكـر الهيئـة للفتـرات المطالـب بهـا.
4) ـ التأكد من وجود الكشف التفصيلي للمبالغ المستحقة الذي يجــب
إرفاقه مع الملاحقة و الذي يوقعه مدير الهيئة و ما مدى مطابقـة
المبالغ المذكورة فيه للمبالغ المذكورة على ظهر الملاحقـة.
5) ـ يتأكد من تاريخ إمضاء الملاحقة من قبل مدير الهيئة على إعتبـار
أن أجل 15 يوما المذكور في المادة 60 من قانون 83/15 يسـري
من تاريخ توقيع الملاحقة من قبل المدير فقد تعرض الملاحقة على
القاضي خارج الآجال و هنا ترفض شكـلا.
6) ـ كما يتأكد القاضي من صحة هوية المكلف ـ المدين ـ و ما مدى
مطابقتها لتلك الموجودة في الإنذار ، مع وجوب ذكر مهلــة 15
يوما و هي مهلة التسوية و كذا المواد و الأحكام القانونيـة التـي
تحكم قواعد و إجراءات الملاحقة و التي يجـب أن تذكـر علـى
ظهرهـا.
بعد الإنتهاء من مراقبة القاضي يؤشر عليها و من تاريخ التأشير تمنح للمدين مهلة 15 يومـا للتسوية أو عرض أمره على لجنة الطعن الأولـى.
إذا و على ما سبق ذكره فإن دور القاضي الإجتماعي عند النظر في المنازعات العامة المرفوعة إليه هو دور إيجابي يتحلى بوضوح في حرصه على إحترام الإجراءات و المواعيد التي جاء بهـا تشريع الضمان الإجتماعي مع سهره على التطبيق السليم لنصوصه خاصة مع تعلق هذه الأحكام و القواعد بالنظام العام.
المطلـب الثانـي : دور القـاضـي في المنـازعات الطبيـة :
لقد حاول المشرع الجزائري من خلال الترسانة القانونية المنظمة لمنازعات الضمان الإجتماعي بصفة عامة و المنازعات الطبية بصفة خاصة تحقيق أكبر قدر من السرعة في الفصل ، حتى أنه جعل من الخبرة الطبية قرارا فاصلا و بصفة نهائية تلزم نتائجها كل الأطراف ماعدا بعض الحالات الإستثنانية ، لكن مع كل ذلك قد يحدث و أن لا توفق التسوية الداخلية للمنازعات الطبية في تحقيق الغرض المرجو ألا و هو تسوية النزاع نهائيا مما يجعل اللجوء إلى القضاء أمرا لا بد منه (1).
الفـرع الأول : إختصــاص القاضـي الإجتماعـي :
نصت المادة 26 من القانون 83/15 على ما يلي : (( مع مراعاة المادة 25 أعلاه يجوز رفع دعوى إلى المحكمة المختصة بالقضايا الإجتماعية فيما يخص : سلامة إجراءات الخبرة ـ مطابقة قرار هيئة الضمان الإجتماعي لنتائج الخبرة ـ الطابع الدقيق و الكامل و غير المشوب باللبس لنتائج الخبرة ـ ضرورة تجديد الخبرة و تتميمهـا ـ الخبرة القضائية في حالة إستحالة إجراء الخبرة الطبية على المعني)).
كما نصت المادة 37 من ذات القانون المعدلة بالمادة 14 من القانون 99/10 (( يجوز الطعن في قرارات اللجان المختصة بحالات العجز أمام الجهات القضائية المختصة)).
بدون شك أن القاضي المختص للنظر في الحالات المنصوص عليها في المادة 26 هو القاضي الإجتماعي بالمحكمة غير أن التساؤل يثار بشأن الطعن في القرارات الصادرة عن لجان العجز فمن هو القاضي المختص ؟.
فقبل التعديل كانت الجهة المقصودة منصوص عليها صراحة متمثلة في المجلس الأعلى للقضاء بالنظر إلى أن قرارات لجنة العجز ليست من قبيل القرارات الإدارية فالمقصود بالجهة القضائية هي جهات القضاء العادي مجسدا في الغرفة الإجتماعية للمحكمة العليا و هذا ما إستقر عليه قضاء المحكمة العليا (2) في أحد قـراراتهـا.
الفـرع الثانـي : صلاحيات و دور القاضي في لجنـة العجـز :
للقاضي دور أساسي في اللجنة الولائية للعجـز و يظهر ذلك من خلال النقاط التالية :
1 ـ إن القانون 83/15 أو كل مهمة ترأس هذه اللجنة إلى قاض برتبة مستشـار
بالمجلس بخلاف اللجان الأخرى التي يترأسها ممثليـن عن الإدارة.
2 ـ إن مداولات هذه اللجنة لا تصح إلا حضرها أربعة (04) من أعضائها منهم
الرئيس بمعنى لا يمكن أن تنعقد اللجنة بدونه.
3 ـ لا تجتمـع اللجنـة إلا بنـاءا علـى إستدعـاء منـه.
4 ـ في حالة تساوي الأصوات يرجح صـوتـه.
كما أن المشرع لم يقيد صلاحيات هذه اللجنة مما يجعل رئيسها أي القاضي يمارس سلطات تكون لها أثار هامة على القرار المتخذ خاصة عند تساوي الأصوات و ترجيح صوته ، إذ يصبح له الأثر البالغ في أي قرار قد تتخذه خاصة إذ علمنا أن عدم حضوره أو عدم تسميته في القرارات المتخذة من قبل اللجنة يؤدي إلى بطلان أعمالها كما تصبح هذه القرارات بهذه الصفة وجه من أوجه النقض (1).
الفـرع الثالث : تدخل القاضي الإجتماعي لحماية حقوق المؤمن لهم :
أ) ـ في مجـال الخبرة الطبيـة : لقد علق المشرع الجزائري على إلزامية نتائج الخبرة و جعلها نهائية في مواجهة الأطراف على شرط سلامة إجراءاتها ففي حالة ما إذا كانت هذه الإجراءات مشوبة بأي عيب كأن تقوم هيئة الضمان الإجتماعي بتعيين الطبيب الخبير دون علم أو موافقة المؤمن له يمكن لهذا الأخير اللجوء إلى المحاكم الإجتماعية للطعن في هذا القرار لمخالفته القانون ، فيتدخل القاضي الإجتماعي لتصحيح الوضع و حماية حقوق المؤمن له ، و كذلك الحال إذا كانت الخبرة المنجزة غير دقيقة و غير كاملة أو يكتنفها الغموض الذي يمنع من الوقوف على الحالة الصحية للمؤمن له بدقة ، فدور القاضي هنا يكون بإصداره لحكم تمهيدي بتعيين خبير قصد الوقوف على حالة المؤمن (أنظر الملحق حكم محكمة سطيف فهرس رقم 237) ، كما تكون للقاضي على غرار ذلك سلطة إلغاء قرارات هيئة الضمان الإجتماعي عند مخالفتها للقانون كحالة عدم مطابقة القرار الذي تصدره للنتائج التي توصلت إليها الخبرة إذ أن القانون يلزم هيئة الضمان الإجتماعي بأن تكون قراراتها المتخذة في هذا الشأن مطابقة لنتائج الخبرة.
ب) ـ فـي مجــال حـالات العجـز : في القرارات الصادرة عن هيئات الضمان الإجتماعي المتعلقة بحالات العجز الناتج عن المرض ، أو حادث العمل أو تاريخ الشفاء و العجز أو نسبته فإن سلطات القاضي تنصب أساسا حول التحقق من المسائل التاليـة :
1 ـ من إستيفاء هذه الدعاوى للقيد المقرر قانونا المتمثل في عرض هذه النزاعات على اللجنة الولائية للعجز قبل اللجوء إلى القضاء و أثر ذلك هو عدم قبول الدعوى لكون الإجراء من النظام العـام.
2 ـ في حالة عدم البت من طرف اللجنة في مسألة تحديد تاريخ الشفاء أو العجز أو تحديد نسبته أو في حالة عدم صدور قرارا من اللجنة يتدخل القاضي حماية لحقوق الطرف المتضرر بتعيين خبير لفحص المعني و تقديـر العجـز و نسبتـه.
فالدور الإيجابي للقاضي الإجتماعي في مجال المنازعة الطبية يشكل حماية قضائية لحقوق المؤمن لهم و ذوي حقوقهم من هيمنة هيئات الضمان الإجتماعي التي قد تتعسف في إستعمال إمتيازات السلطة العامة بوصفها مرفق عام ، و هي الغاية التي كان يرجوها المؤمن لهم عند لجوءهم إلى القضاء.
المطلـب الثـالث : دور الـقاضي في المنـازعات التقنيـة :
قد لا يقتصر النشاط الطبي الذي يتم من طرف المتدخلين في إطار منازعات الضمان الإجتماعي على تلك العقوبات المسلطة في إطار الدعاوى التأديبية ، و إنما تذهب أحيانا إلى أبعد من ذلك في حالة ثبوت قيامهم بالأفعال المنصوص عليها بموجب مدونة أخلاقيـات مهنة الطب ، إذ تقوم في هذا الصدد المسؤولية الجزائية في حالة إرتكاب المتدخل بفعل من الأفعال المجرمة بموجب قانون العقوبات ، أما المسؤولية فتتمثل في الإلتزام بتعويض الغير في حالة قيام أي فعل ضـار (1).
الفـرع الأول : إختصـاص القاضـي الجـزائـي :
إن قيام مسؤولية الطبيب المتدخل في إطار النشاط الطبي المتعلق بمنازعات الضمان الإجتماعي يمكن أن تترتب عليها دعوى جزائية و من ثم يقوم إختصاص القاضي الجزائي للنظر في مثل هذه المنازعات و هي الأفعال المجرمة بنصوص قانون العقوبات أو بنصوص خاصة و منها نذكـر :
ـ إفشاء السر المهني و هو الفعل المنصوص و المعاقب عليه بنص المادة 301
من قانون العقوبات.
ـ إعطاء بيانات كاذبة و هو الفعل المنصوص و المعاقب عليه بنـص المـادة
226 من قانون العقـوبـات.
ـ تحرير إقرار أو شهادة تثبت وقائع غير صحيحة و هـي الأفعال المعاقـب
عليها بنص المادة 228 من قانون العقوبات . و هي الأفعال التـي يجرمـها
و يعاقب عليها قانون حماية الصحة (2).
الفـرع الثانـي : سلطة القاضي في إستخلاص عناصر المسؤولية الجزائية :
أـ في المسؤولية الجزائية عن إفشاء السر المهني : يبحث القاضي هنا في قيام أركان الجريمة و تبيان عناصرها ثم في إسناد الفعل إلى الفاعل و تتمثل أركان الجريمة في :
ـ الركن المادي و الذي يشتمل على العناصر التالية : السر الطبي ، فعل الإفشاء و صفة الجاني.
ـ الركن المعني و هو القصد الجنائـي لأنهـا من الجرائـم العمدية.
إذ أن الطبيب لا يستطيع مقدما أن يعلم بما قد يرتبه فعل الإفشاء من أضرار أم لا ، فقد يكون لصاحب السر مصلحة في أن لا يعلم أحد ، كأن تكون هيئة أو جهة معينة عن حالته الصحية لأن مصلحته تتضرر إن علمت هذه الجهة بأنه خال من أي مرض في حين أنه يدعي عدم القدرة على القيام بعمل معين ، و أن ظروفه تقتضي تغيير نوع عمله أو مكانه فضلا عن أن نفي مرض معين يعني فعلا إصابته بمرض آخر إذا كان بدا عليه أعراض مرضيين.
إن السر الطبي لا يقتصر على المعلومات الخاصة بنوع المرض أو الإصابة التي يعاني منها المريض ، و إنما يشمل كل ما يتصل بالعمل الطبي من فحص و تشخيص كإجراء التحاليل و الأشعـة.
و في ذلك قضى في فرنسا : (( أن الخاضع للإلتزام المهني بالكتمان يلتزم بالصمت الكامل ليس فقط بالنسبة لما أودع لديه و لكن كذلك أيضا بالنسبة لكل ما كان في إستطاعته أن يعلم به بسبب ممارسته لمهنته أو بمناسبتها أن يراه أو يسمعه أو يفهمـه أو يستنتجـه (1) .)).
و لا يمكن للطبيب أن يتحجج بأي عذر عند مساءلته أمام المحكمة ، حيث علق المستشار (تانو) على حكم محكمة النقض الفرنسية في قضية الدكتور (( watelet )) جاء في تعليقه ما يلي : إن الطبيب لا يحق له أن يستند لتبرير فعلته على أن السر أصبح معروفا للعامة إذ أن محيط العامة و أقوال الصحف لا يعتمد عليها كثيرا و من الناس من لا يصدق روايتها ، أما إذا تقدم الطبيب المعالج و أفشى السر فإنه يؤكد الرواية و يحمل المترددين على تصديقها (2) ...)). و إذا توافرت أركان جريمة إفشاء السر وجب تطبيق العقوبة المقررة لها بحسب ما نصت عليه المواد : 235 من قانون الصحة و المادة 301 من قانون العقوبات و التي نصت على ما يلي : (( يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر و بغرامة من 500 إلى 5000 دج........)).
و من المسائل التي يجب أن يراعيها القاضي في تقديره للعقوبة من حيث التشديد أو التخفيف الباعث (3) على إفشاء السر فإذا كان هو الإضرار بالمعني عليه و التشهير به فإن العقوبة تشدد ، إلى جانب الإعتبارات الأخرى كمقدار الضرر اللآحق بالمريض ، و مدى إتصال الواقعة بشرفه و سمعته و مركزه الإجتماعي كما قد يكون الباعث سببا في تخفيفهـا.
ب ـ المسؤوليـة الجزائيـة المترتبة عن تقديـم الوصفـة الطبيـة : يتولى الأطباء مهمة تسليم الشهادات و المستندات و التقارير الطبية التي تخضع في الحقيقة إجراءات تسليمها لقواعيد صارمة حددها القانون و التنظيم ، و هي ليست مجرد إجراء مادي بدخل ضمن النشاط الطبي و إنما عمل خطير قد تتجاوز آثاره الإطار الضيق للعلاقة الطبية ما بين الطبيب و المريض و إنما قد ترتب في ذمة الغير آثار مالية بالغة و المقصود بالغير هنا هيئة الضمان الإجتماعي.
حيث نصت المـادة 238 من قانون الصحـة علـى ما يلـي :
(( يمنع كل طبيب، جراح أسنان، قابلة من الإشهاد خطأ أو عمدا قصد تأييد أو إلحاق ضرر بشخص معنوي أو طبيعي)) فيقع على الطبيب أن ينقل بصدق ضمن مختلف الشهادات و المستندات و التقارير الطبية التي يحررها بصــدق و أمانة دون تزوير أو تزييف الذي من شأنه أن يعطي إمتيازات للمؤمن له الذي من شأنه الإضرار بميزانيـة الصندوق ، و يبحث القاضي هنا من خلال تفحصه لمضمون الوصفة في العلاقة السببية ما بين الخطأ و الضرر و يقوم بتحديد الخطأ و تكييفه و له في ذلك أن يدعم عمله برأي الخبير.
و يستخلص الخطأ من الوقائع الواردة في الملف و لا بد أن يكون ثابتا ثبوتا كافيا لدى القاضي ، بمعنى أن يكون ظاهرا لا يحتمل المناقشة أي بصفة قاطعة و لقد ربطه المشرع الجزائري بالضرر في المادة 239 من قانون حماية الصحة ، و يبحث القاضي هنا في تبيان العناصر التاليـة :
ـ أن يكون التزوير بهدف إعطاء إمتيازات غير مبررة للغيـر.
ـ أن يكون هذا الإمتياز قد ألحق ضررا بهيئة الضمان الإجتماعي ، أي لا بد
أن يكون الضرر محقق الوقوع مادي و معنوي و في إتجاه إرادة الجانـي
لإرتكاب هذا الفعل المجرم.
ـ و أن يتأكد كذلك من أن التزييـف للحقيقة كان عمدي (1) .
و عند تقرير القاضي لقيام أركان الجريمة و إدانة المتهم عنها يكون له دور في تقدير العقوبة إذ نصت المادة : 226 من قانون العقوبات على ما يلي :
(( كل طبيب أو جراح أو طبيب أسنان أو ملاحظ صحي أو قابلة قرر كذبا بوجود أو بإخفاء وجود مرض أو عاهة أو حمل أو أعطى بيانات كاذبة عن مصدر مرض أو عاهة أو عن سبب الوفاة و ذلك تأدية أعمال وظيفته و بغرض محاباة أحد الأشخاص يعاقب بالحبس لمدة سنة إلى ثلاث سنوات)). كما يمكن الحكم على الجاني بحرمانه من حق أو أكثر من الحقوق الوارد ذكرها في المادة 14 من قانون العقوبات.
المطلـب الرابع : دور الـقاضي في الدعاوي ذات الطابع المدني :
ليست كل المنازعات التي يثيرها تطبيق قانون الضمان الإجتماعي هي منازعات عامة ، طبيبة و تقنية و فقط بل هناك من المنازعات ما هي ذات طابع مدني و تشمل الدعاوي التي يرفعها المؤمن له أو هيئة الضمان الإجتماعي للمطالبة بالتعويض و التي يؤول إختصاص النظر فيها إستثناءا للقضاء المدنـي و كذلك المنازعات ذات الطابع الإداري و التي يكون موضوعها إلغاء القرارات الصادرة عن السلطة الوصية لتجاوزها السلطة ، كما يختص القاضي التجاري بالنظر في المنازعات المتعلقة بالإتفاقيات التي تبرمها هيئات الضمان الإجتماعي بوصفها تاجرة مع الغير في إطار نظام ما يعـرف ((بالدفـع من قبل الغير)) (( Le système dutiers-payant )).
الفـرع الأول : إختصـاص القاضـي المدنـي و دوره :
أ/ من حيـث الإختصاص : يختص القاضي المدني بالنظر في المنازعات الضمان الإجتماعي و ذلك في الدعاوي التي يكون موضوعها المسائل التالية :
- المنازعة التي ترفعها هيئة الضمان الإجتماعي على صاحب العمل المتسبب في الحادث لتسترد المبالغ التي تكون قد دفعتها للمؤمن له إجتماعيا أو حالة أن لا يفي صاحب العمل بإلتزاماته في دفع الإشتراكات تأسيسا على نص المادة 85 فقرة 02 من 83/11 و التي جاء بشأنها في قرار المحكمة العليا الصادر بتاريخ 22/11/1993 في الملف رقم 101131 ما يلي : (1) : (( من المقرر قانونا أنه عندما لا يفي أصحاب العمل بإلتزاماتهم يتعين على هيئات الضمان الإجتماعي أن تدفع الأداءات للمؤمن له و الرجوع بعد ذلك على هؤلاء (أي أصحاب العمل) للمطالبـة بهـا)).
- الدعوى التي ترفعها هيئة الضمان الإجتماعي ضد المؤمن له أو المستفيد لتسترد المبالغ و الأداءات التي دفعتها له خطأ بناءا على تصريحات مزيفـة على غرار حقها في اللجوء إلى متابعته جزائيا (2) بناءا على شكوى تقدمها أمام وكيل الجمهورية كما يمكن للصندوق رفع دعوى مدنية ضد الطبيب الذي يسهل للغير الحصول على إمتيازات مالية و آداءات لا يستحقها و ذلك بتزييفه للفحوصات الطبية و نتائجها بناءا على إقرار كاذب بوجود أو بإخفاء وجود مرض أو عاهـة.
- الدعوى التي يرفعها المؤمن له ضد صندوق الضمان الإجتماعي للمطالبة بالتعويض عن الضرر الذي لحق به جراء تماطل و تأخر الصندوق في دفع الأداءات المستحقة له تأسيسا على نص المادة 84 من قانون 83/15.
- الدعوى التي يقيمها المؤمن له أو ذوي حقوقه على الغير المتسبب في حادث العمل طبقا للمادة 43 من قانون 83/15.
- المنازعة التي قد تثـور ما بين المؤمن له و صاحب العمل حول الخطأ المتعمد و المنصب حول عدم مراعاة صاحب العمل لشروط الصحة و توفير وسائل الحماية و الوقاية و الأمن داخل أماكن العمل و هذا إعمالا بنص المادة 44 من قانون 83/15 و يمكن لهيئة الضمان الإجتماعي أن تحل محل المؤمن له في ذلـك.
ب) ـ من حيث سلطته في فحص عناصر المسؤولية : يدرس القاضي كافة أوراق الملف و يحقق في توافر أركان المسؤولية المدنية من عدمه لأن تقرير ذلك هو الذي يفتح للمضرور الحق في التعويض ، و يتحقق القاضي من قيام الخطأ الذي يشترط فيه أن يكون ثابتا وواضحا كما يبحث في الضرر الذي أصاب الضحية و في توافر عناصره من أن يكون موجودا أكيدا ، و مباشرا إذا لا تقوم المسؤولية إلا بقيام ركن الضرر و في هذا الصدد لا يكتفي القاضي بما يقدمه الخصوم من إفتراضات ، بل عليه أن يستخلص وقوعه بنفسه لأنها مسألة موضوعية ، و أخيرا يبحث في قيام العلاقة السببية ما بين الخطأ و الضرر إذ يجب أن تكون هذه العلاقة مباشرة فإذا إنتفت الرابطة إنتفت المسؤولية و إذا توصل القاضي إلى ثبوت الضرر و قيام المسؤولية بأركانها وجب عليه أن يحكم بالتعويض للمضـرور.
ج) من حيث سلطته في تقديـر التعويـض : القاعدة العامة في تقدير التعويض عن الضرر أن يكون في حدود جبرا كاملا ، و يشترط على القاضي أن لا يحكم بالتعويض زائد عن الضرر فكل زيادة تعتبــر ((إثراء بلا سبب)). و يكون التعويض هنا عن الفعل الضار بسبب الخطأ و للقاضي الحرية الكاملة في تقديره و يراعي في ذلك ما هو أنسب لإصلاح الضرر معتمدا في ذلك على ما نصت عليه المادة 132 من القانون المدني ، و مسألة تقدير التعويض هي مسألة موضوعية ينفرد بها قاضي الموضوع الذي يمكنه الإستعانة في ذلك بأهل الخبرة و الإختصاص و عند تقديره للتعويض يراعي القاضي القواعد التاليـة :
1- معيـار ما لحقه من خسارة و ما فاته من كسـب : و المقصود هنا الخسارة اللاحقة و هي الضرر المباشر الذي لحق المضرور أما الكسب الغائب فهو كل ما كان سوف يتحصل عليه لو إستمر في عمله قبل وقوع الحادث أو كان سوف يتحصل عليه لو لم يقعده الفعل الضار عن هذا الكسب.
2- معيـار الظـروف الملابســة : أن يراعي القاضي كذلك في تقديره جميع الظروف الشخصية و العائلية و المالية التي تحيط بالمضرور ، فالأعزب ليس كالمتزوج مثلا ، كما يأخذ القاضي في التقدير سن الضحية دخلها و مهنتها.
الفـرع الثاني : إختصاص القاضي التجاري و دوره في منازعات الضمان الإجتماعـي :
أ/ من حيـث الإختصاص : تنص المادة 02 الفقرة الثانية من المرسوم التنفيذي 92/17 المؤرخ في 02/01/1992 المتضمن الوضع القانوني لصندوق الضمان الإجتماعي و التنظيم الإداري و المالي لها على ما يلي ((.... و تخضع في علاقاتها مع الآخرين للتشريع التجاري ، و كذا القوانين و التنظيمات السارية المفعول و لأحكام هذا المرسوم)).
فالصيدلي و كذا المؤسسة الإستشفائية ليست لهم صفة المؤمن له و لا صفة صاحب العمل بمفهوم تشريع الضمان الإجتماعي فهي تربطها بصناديق الضمان الإجتماعي إتفاقيات في إطار نظام الدفع من قبل الغير و التي يتم إبرامها وفق إتفاقيات نموذجية حددها تشريع الضمان الإجتماعي بموجب المرسوم التنفيذي 97/472 المؤرخ في 08/12/1997 المحدد للإتفاقية النموذجية مع أصحاب الصيدليات و القرار الوزاري المشترك المؤرخ في 27/12/1995 المتضمن لنموذج الإتفاقية مع المؤسسات العمومية الصحية ، و بإعتبار أن الصندوق هنا يتصرف مع هذا الغير كتاجر فالقاضي التجاري هو المختص في حالة قيام نزاع بين الأطراف المتعاقدة طالما و أن الأمر يتعلق بإتفاق و ليس تقديم أداءات أو تعويضـات.
ب) ـ سلطـة القاضي التجاري في التحقق من عدم تنفيذ الإلتزام : يتحقق القاضي من خلال مراجعة بنود الإتفاقية و إطلاعه على أوراق الدعوى من البحث على طبيعة الإلتزام الذي تم الإخلال به ، و ما إذا كان الفسخ هو الجزاء المقرر له ، فالإلتزام هيئة الضمان الإجتماعي هو في دفع مستحقات الصيدلية و في المقابل تقع على هذه الأخيرة الإلتزام بتقديم الدواء مجانا للمؤمنين إجتماعيا مقابل و صفات طبية تمسكها للتسديد فعدم دفع المستحقات في الآجال المحددة هو إخلال الإلتزام و كذلك عدم تسليم الدواء من قبل الصيدلي للمؤمن الذي يحمل بطاقة الدفع (أنظر الملحق حكم محكمة سطيف القسم التجاري رقم 272).
ج) سلطـة القاضي في التحقق من شروط الفسخ : عند الإخلال بالإلتزامات تقدم دعوى طلب الفسخ أمام القاضي الذي يقع عليه عبأ التحقق من توافر شروط دعوى الفسخ ، و هي الشروط الواردة في نص المادة 119/2 من القانون المدني و عليه التأكد من توافر الشروط التالية :
أن يكون العقد ملزم لجانين – أن يكون أحد المتعاقدين قد أخل بإلتزاماته – أن لا يكون طالب الفسخ مقصرا في تنفيذ إلتزاماته.
كما يتأكد القاضي من وجود الإعذار و بتبليغه للمدين و تكليفه بالوفـاء و لكن عند عدم وقوع الإعذار لا يمكنه الحكم برفض دعوى الفسـخ حتـى و لو كان الإعذار سيساعده في إقناعه بتعنت المديـن.
و يكون تقرير الفسخ من قبل القاضي بموجب حكم قضائـي يصــدره و يكون منشأ أما في الفسخ الإتفاقي فللقاضي السلطة التقديرية في خيارات ثـلاث :
- أن يقضي بالفسخ ، أو أن يرفض الفسخ ، أو أن يمنح أجل التنفيذ إذا و في المدين بالقليل فيحكم عليه بتنفيذ الباقي ، و هذه الرخصة المخولة للقاضي بأن يمنح أجل للتنفيذ ما هي إلا تطبيقا للقاعدة العامة التي تبيح للقاضي في حالات إستثنائية أن يمنح للمدين أجلا معقولا كي ينفذ إلتزامـه.
د) دور القاضي في تفسير العقد و تكييفـه : إن تفسير العقد من عمل القاضي (1) و قد ألزمه المشرع في ذلك بأن يتبع قواعد معينة لضمان عدم خروجه عن مهمته الأصلية ، و في هذا الشأن لا يجوز للقاضي الإنحراف عن عبارات العقد متى كانت واضحة ، و إذا ما كانت غامضة و تعذر عليه معرفة إرادة المتعاقدين تعين عليه في هذه الحالة الأخـذ بقواعد العـدالـة و حسن النية ، كما يقوم القاضي بدوره في تكييف العقد بإعطائه وصفا قانونيا صحيحا لتحديد القواعد التي تحكم كل وصف ، و هو عمل قانوني من صميم مهمة القاضي ، يقوم بإستخلاصه من عبارات العقد و تفسيره لإرادة المتعاقدين المشتركـة.
الفـرع الثالث : إختصاص القاضي الإداري و دوره في منازعات الضمان الإجتماعـي :
أ/ من حيث الإختصاص : نصت المادة 15 من القانون 83/15 على ما يلي :
(( تدخل الخلافات التي قد تطرأ بين الإدارات العمومية و المجموعات المحلية بصفتها هيئات مستخدمة و بين هيئات الضمان الإجتماعي في نطاق إختصاص القضاء الإداري)).
إن المشرع الجزائري هنا قد إستند للمعيار العضوي لتحديد إختصاص القاضي الإداري و ذلك على أساس المادة 07 من قانـون الإجـراءات المدنيـة و المقصود بالإدارات العمومية و الجماعات المحلية الولاية و البلدية و المؤسسات العمومية ذات الطابع الإداري بإعتبارها هيئات مستخدمة و مكلفة قانونا بتنفيذ إلتزاماتها المقررة بموجب القانون 83/14 من تشريع الضمان الإجتماعي كالتصريح بالموظفين و النشاط و الأجور و دفع الإشتراكات فأي إخلال بهذه الإلتزامات يعطي الحق للهيئة في اللجوء إلى الغرف الإدارية الجهوية إذا كان المدعي عليها هي الولاية و إلى الغرفة الإدارية بالمجلس إذا كانت البلدية أو المؤسسة العمومية ذات الطابع الإداري هي المدعي عليها كما ينعقد الإختصاص للقضاء الإداري في إلغاء القرارات التي تصدرها السلطة الوصية و يكون موضوعها تجاوز السلطة ، فمراقبة مدى شرعيـة هذه القرارات و إلغاءها يعود إلى القاضي الإداري. كما يختص القاضي الإداري في النظر في المنازعة المتعلقة بالعقود الإدارية التي يبرمها الصندوق و هي تلك العقود التي تتعلق بالضمان الإجتماعي كمرفق عـام.
ب) ـ دور القاضي الإداري في التحقق من توافر الشروط الشكلية في الدعوى : و هي النقاط التي يراقبها القاضي قبل التطرق لموضوع النزاع الذي ينصب حول مدى شرعية القرار الإداري محل الطعن بالإلغاء و هذه الشروط (1) هـي :
-شرط أن تكون دعـوى الإلغاء منصبـة حـول قرار إداري نهائي لـه
مواصفات القرار الإداري بإعتباره عملا قانونيا إنفراديا صادرا عن سلطة
إدارية مختصة بمعنى أنه يكون قرارا منشأ و معدلا و لاغـيا لإلتزامـات
و حقوق أو لمراكز قانونيـة.
- يتأكد القاضي من وجود التظلم الإداري التدرجي سواء أمام نفـس الجهة
المصدرة للقرار أو أمام الجهة التي تعلوهـا مباشـرة.
- أن يتأكد من توافر شروط المدة و هو ميعاد شهرين طبقا للمادة 275 من
قانون الإجراءات المدنيـة.
- يبحث القاضي في توافر شرط الصفة و المصلحة في رافع الدعوى و لا
يشترط في المصلحة أن تكون ذاتيـة.
- التأكد من عدم وجود طريق موازي للطعن أو دعوى موازيــة.
ج) دور القاضي في البحث في مدى مشروعية القرار : بعد أن يتحقق القاضي من توافر الشروط الشكلية لقبول الدعوى و إنعقاد إختصاصه للنظر فيها يقوم بالبحث عن مدى مشروعية القرار محل الإلغاء و ذلك في التحقق من مدى سلامته و خلوه من العيوب التي تمس المشروعية و التحقيق في أهدافه و متى ثبت للقاضي أن القرار غير مشروع أو مشوبا بعيب ما قرر إلغاءه.