بحيث تبقى هذه العلاقة على شفير الهاوية، ان شاء أبقاهم وان شاء فصلهم بلا ضمان . الا ان هذا الوضع لم يكن
على قدر كبير من الخطورة، لأن الوظيفة العامة في هذه الفترة كانت أمراً ستثنائياً في حياة المواطنين عليهم ان
يشبعوا حاجاتهم بأنفسهم ولا تلتزم الدولة قبلهم بشيء بل يقتصر دورها فقط في المجال البوليسي الذي يقوم على
حماية حدودها الخارجية وحفظ أمنها الداخلي وتطبيق القضاء فيها . اما حديثاً، لم يعد يقف دور الدولة عند حدّ
رجل البوليس، فبعد ظهور المذاهب الاشتراكية المنادية بضرورة تدخل الدولة تعددت وظائف الدولة وانتشر
نشاطها في مختلف الميادين خاصة الاقتصادي والاجتماعي منها، وأصبحت الدولة مطالبة بان تشرف على
المواطن وترعاه من المهد إلى اللحد . وقد ترتب على ذلك ان تغيرت النظرة إلى الوظيفة العامة وصارت هي
الأصل يعتمد الموظف على مرتبهـا اعتماداً كاملاً وأضحى عمال الإدارة بالألوف تربطهم علاقـة تعـاقد مع الدولة
التي ليس لها ان تعزلهم من مهامهم على هواها، بل انها تعمل ضمن هيكلية سياسية واجتماعية يكون التنظيم
الإداري فيها محكوماً بمقتضيات الشرعية القانونية التي تجسدها أحكام الدستور والقوانين والمبادئ العامة للقانون
واجتهادات القضاء، تأكيداً للعبارة القائلة ان "المجتمع المنظم هو الذي تكون الضمانة فيه سيادة الحق والقانون" .
غير انه، عرفت أنظمة بعض البلدان نظام القضاء المزدوج كفرنسا ومصر ولبنان، أي ان التنازع الناجم عن نشاط
الإدارة يبتها القضاء الإداري لتحقيق الرقابة القضائية على مشروعية أعمال السلطات الإدارية . وطالما كان يوجد
قضاء إداري مستقل فانه يحتاج إلى قانون غير عادي، يعمل في صلبه على حماية المصلحة العامة وتقديمها على
مصالح الأفراد الشخصية . ولكن بين امتيازات السلطة الإدارية المقدمة على حقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية من
ناحية، وقصور نصوص القانون الإداري من ناحية أخرى، كان القضاء الإداري الحكم في تحقيق الصالح العام
للمجتمع وحماية الأفراد من تعسف السلطة الإدارية، وكان له الدور الهام في بناء صرح المشروعية الإدارية بإنشاء
نظرية المبادئ العامة للقانون لتكون مصدراً مستقلاً عن التشريع يضمن من خلالها فاعلية الرقابة القضائية على
السلطة الإدارية، هذه الرقابة يمارسها القضاء الإداري وفق أصول وقواعد ومبادئ تحمد عليها تتصدى في أكثر
الأحيان في مواجهة السلطة العامة وما تتمتع به من امتيازات تخولها اتخاذ التدابير بمشيئتها المنفردة في سبيل
المصلحة العامة وضمان استمراريتها .
من بين هذه المبادئ، اخترنا مبدأ احترام حقوق الدفاع، عمل مجلس الدولة الفرنسي على إنشائه من بين المبادئ
العامة الواجبة التطبيق حتى بدون نص، ولكن لم يأتي خلقه من العدم، بل حرص هذا القضاء على بيان أسلوب
إنشائه تحت حجج تأمنه من أي نقض يلوح بوجهه حتى أصبحت أسس لهذا المبدأ .
وكانت ولادة نظرية المبادئ العامة او الإعلان عنها صراحة في مجموعة أحكام
Sieur Aramu-Mattei-Brlloir-Tabtiالتي أعلن فيها صراحة "المبادئ العامة الواجبة التطبيق حتى
بدون نص"
Les principes généraux du droit applicable même en
l`absense de texte
وكان ذلك لتأسيس مبدأ احترام حقوق الدفاع وضرورة تطبيقه على كل قرار إداري يتضمن معنى الجزاء(1).
الأصل انه، ليس على الإدارة ان تطلع الأفراد على ما تنوي اتخاذه من مقررات تتعلـق بهـم، وعلـة ذلك ان مجمـل
النشاط الذي تقوم به الإدارة يرتكز على إيلاء الإدارة سلطـة اتخـاذ التدابيـر بإرادتهـا المنفـردة (décisions unilatérales)
في سبيـل تحقيق المصلحـة العامة . غير انه، لا يجوز الأخذ بهذا المبدأ على إطلاقه فقد تصل الإدارة إلى حدّ
تجاوز حدّ السلطة، ما يشكل افتئات على الحريات العامة وحقوق الأفراد، وباتت الإدارة تتجه أكثر فأكثر نحو
مشاركة من يعنيهم الأمر أو من يمثلهم، في وضع الأنظمة المناسبة خصوصاً في الحقل الاقتصادي والاجتماعي .
وعلى عكس الحال في المجال التنظيمي، تتسع دائرة الزام الإدارة بإعلام أصحاب العلاقة التدابير المنوي اتخاذها
بحقهم، وبالتالي تقليص دائرة تطبيق المبدأ المشار اليه سابقاً ليحل محله مبدأ آخر ألا وهو احترام حقوق الدفاع .
بموجبه تلتزم الإدارة عند اتخاذ تدابير تمس بحقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية أن تطلعهم على ما تنسبه إليهم
وإفساح المجـال أمامهـم للدفـاع عن أنفسـهم، كل ذلك تخفيفاً من غلواء امتيازات الإدارة – الذي قد يصل إلى حد
الاستبداد – وتأميناً لحقوق الأفراد وأوضاعهم القانونية سواء في مرحلة التحقيق أو في مرحلة المحاكمة اذ ان
تجاهل أية واقعة أو تقاعس في استكمال التحقيق تؤثر سلباً في النتيجة التي يؤول اليها التحقيق، لينتهي الأمر
بإبطال القرار المطعون بصحته بسبب تجاوز حد السلطة .
هذا ما حمل بعض رجال الفقه(1) للحديث عن فرض قيود على الإدارة وضبط تحركها يقول فيه "لذا منعاً لأي
تعسف أو سوء تصرف، كان لا بد من ان ينظم القانون بمفهومه العام والشامل، تحرك السلطة العامة ويرسم لهـا
الحدود تجاه جمهور الرعية، لكي تتمكن من أداء المهام المنوطة بها لتحقيق الصالح العام مع احترام الحقوق الفردية
المشروعة" . غير انه، قد يرد البعض أنه يستحيل على الإدارة ان تقوم بما أوكل اليها إذا كان يتوجب عليها
الالتزام بأحكام القوانين !
هنا يقترح بعض الفقه(1) ممارسة الرقابة الذاتية، أي ان تتولى الإدارة مراقبة نفسها بنفسها فتعمل ضمن حدود
القانون تلقائياً وبدون تدخل خارجي . ولكن ان مثل هذا الحل يطلق يد الإدارة في العبث بحقوق المواطنين
وحرياتهم الأساسية وهي ليست في الحقيقة مقيدة، ولن تكون كذلك إذا كان استنباط القواعد القانونية أو إلغاءها أو
الشذوذ بها وفق ما يحلو لها وكيفما تشاء(2).
كما ان وجوب حماية الأفراد من تجاوزات السلطة العامة، أمر على قدر من الأهمية له دوره في تصنيف الأنظمة
السياسية العالمية فيما إذا كانت راقية او غير ذلك . وكثيراً ما تكون الحال على غير ما نريدها إذ نرى في بعض
الأحيان وجود فساد إداري يغلب عليه هاجس الرشوة وسيطرة الواسطة حتى ينتهي بنا الأمر لإساءة استعمال
السلطة وتخطي حقوق الأفراد وتجاوز حرياتهم الأساسية، وبالتالي نسف مبدأ احترام حقوق الدفاع موضوع بحثنا
من أساسه .
موضوع بحثنا أصبح واضحاً، سوف نعمل من خلاله لبيان جميع الجوانب التي تظهر لنا حقيقة مبدأ حق الدفاع
وتفصيلاته . ولكن سيكون مرجعنا الأساسي أحكام مجلس الدولة في فرنسا ومصر ولبنان ارتباطاً بدورها الأول
في ظهور مبدأ حق الدفاع . وبالطبع لن نهمل إبراز الآراء الفقهية الحميدة في هذا المجال فان لها الدور الهام في
تجميع هذه الأحكام وتقييمها .
بغنى عما سبق، نريد ان نبين بعض المشاكل التي تعرضنا لها في دراسة مبدأ حق الدفاع وهي تعود إلى مكتبتنا
القانونية في لبنان . بالنسبة للأحكام الفرنسية واجهتنا مشكلة تفصيلات الأحكام الحديثة فقد استخرجنا بعضها من
كتاب Les Grands Arrêts de la jurisprudence
administrative
ولكن لم نتمكن من معرفة تفصيلاتهـا مما اضطرنا إلى عرضها كمثل فقط .
وفي مصر كانت المشكلة في الحصول على أحكام المحكمة الإدارية العليا فلم يكن أمامنا الا الاستعانة بالأحكام
الواردة في المؤلفات او المقالات . أما في لبنان المشكلة كانت في ضآلة المؤلفات الفقهية حول موضوع مبدأ حق
الدفـاع حتى في المراجـع العامة .
مبدأ حق الدفاع في تأديب الموظف العام