أخي الكريم .. في الواقع لا نستطيع الحكم على قانونية تصرف ما من عدمها إلا بالإستناد إلى نص قانوني واضح و صريح، و هو ما لا يتوفر في حالتنا هذه ... فقانون الصفقات يقر بمسألة التفاوض و لكنه لا يحدد مفهومها و مشتملاتها و شروطها و كيفياتها و آلياتها، و بالتالي لا يستطيع أحد أن يعتبر هذا التفاوض مخالفا للقانون ... و بالمقابل لا يستطيع أحد أن يثبت أن هذا التفاوض قد تم بطريقة تحترم مقتضيات القانون لأن القانون نفسه لم يحدد لها طريقة معينة.
و بالتالي لا يبقى أمامنا من الناحية القانونية إلا أن نقيد عملية التفاوض هذه بثلاث شروط منصوص عليها في مواد مختلفة من قانون الصفقات :
- الشرط الأول : أنه لا يسمح بالتفاوض مع المتعهدين إلا بعد الإنتهاء من عملية تقييم العروض.
- الشرط الثاني : أن لا يشكل التفاوض ممارسة تفضيلية لأحد المتعهدين على حساب الآخرين و هذا يندرج في إطار مبدأ المساواة في معاملة المتعاملين الإقتصاديين.
- الشرط الثالث : أن يتم التفاوض بشكل شفاف تطبيقا لمبدأ آخر من قانون الصفقات و هو مبدأ شفافية الإجراءات.
هذه الشروط الثلاث هي حصرا ما نستطيع البناء عليه لقبول نتائج التفاوض أو رفضها في ظل النصوص السائدة حاليا.
و من خلال تحليل هذه الشروط الثلاث، نستنتج أن عملية التفاوض حتى في ظل هذا الفراغ القانوني تظل محكومة ببعض الضوابط التي تتطلب حدا أدنى من الجهد من طرف المصالح المتعاقدة حتى يتم تضمين دفاتر الشروط بنودا تقر حق المصلحة المتعاقدة في اللجوء إلى التفاوض و تبين الجهة المكلفة بإدارة هذا التفاوض و شكليته و إجراءاته.
هذا من الناحية العملية ... و لو أطلقنا العنان للنقاش النظري الأكاديمي فنستطيع طرح جملة من الملاحظات و التساؤلات التي نرمي بها إلى توضيح مدى تعقيد عملية التفاوض مما يتطلب النظر إليها على أنها من أكثر العمليات تعقيدا في تسيير الطلب العمومي ككل و هي لا تؤخذ بكل هذه البساطة.
إذا أردنا تعريف عملية التفاوض فقد يكفي ان نقول أنها :
- تهدف إلى الحصول على أفضل خدمة في إطار إحترام قاعدة الشفافية تحقيقا لما يعرف بالطلب الفعال الذي يتميز بالبحث عن ملاءمة عروض المتعهدين لحاجيات المصلحة المتعاقدة، و عليها بالتالي أن تحدد أي العروض أكثر إستجابة لمتطلباتها بحيث يشكل هذا العرض أفضل علاقة ما بين الجودة و السعر دون أن تؤدي عملية التفاوض هذه إلى تعديل المواصفات التقنية و الفنية الأصلية للعملية و خصوصا أن لا تؤدي عملية التفاوض هذه إلى تغيير معايير إختيار المتعامل المتعاقد.
- على أي شيء نتفاوض :
من حيث المبدأ، يعود للمصلحة المتعاقدة أن تحدد ذلك بدقة فإما أن تشمل عملية التفاوض جميع عناصر العرض أو على بعضها أو على عنصر واحد فقط منها، و عموما يمكننا تصور ما يلي :
1- مبلغ العرض : تسعى المصلحة المتعاقدة هنا إلى الإجابة عن سؤال جوهري : كيف ندفع أقل مقابل أفضل خدمة ؟ فإذا كان موضوع الطلب العمومي مثلا إقتناء تجهيزات على سبيل المثال فالمفاوض الذكي لا يركز التفاوض حول تكلفة الإقتناء في عمومها بل عليه أن يوجه جهده إلى التفاوض حول مبلغ الملحقات أو الخيارات أو قطع الغيار أو الضمانات أو الصيانة أو غيرها و التي تؤدي في الأخير إلى التأثير على مبلغ التكلفة، و بالتالي يفترض في المفاوض الإلمام بكثير من التفاصيل التي غالبا ما تتجاوز مسؤول المصلحة المتعاقدة و بالتالي يكون من حقنا أن نتساءل عن الجهة التي تقوم بالتفاوض و مدى كفاءة من يقوم بها، و كذا حول الطريقة التي يجب على المصلحة المتعاقدة أن تشترطها في تقديم العروض و التي تسهل عملية التفاوض المحتملة.
2 - الكميات : يمكننا خلال عملية التفاوض التأثير على مبلغ العرض من خلال إعادة النظر على سبيل المثال في وتيرة التسليم، فقد يكون على سبيل المثال مطلوبا تسليم بعض المشتريات 03 مرات في الأسبوع مما يرفع تكلفة النقل فيكون ممكنا التأثير على هذه التكلفة من خلال تخفيض و تيرة التسليم إلى مرتين إذا كان ذلك ممكنا.
3- الآجال : يمكن أن نزيد في آجال الإنجاز أو التسليم بما يحقق تخفيضا في التكفلة و بالتالي تخفيض قيمة العرض.
4- التفاوض حول الضمانات المختلفة ككفالة حسن التنفيذ و عقوبات التأخير و شروط الفسخ و غير ذلك مما قد يؤثر على تكلفة الخدمة.
مما سبق يتضح لنا أن عملية التفاوض ليست عملية بسيطة و ليس الهدف منها تخفيض العروض بالمعنى المتداول حتى تصبح في حدود الغرف المالي المتوفر ... فهذه المسألة يجب دراستها جيدا على ضوء ما سبق أن تناولناه أعلاه من حيث أن تجاوز الغلاف المالي لا يعني في جميع الحالات أن العروض مفرطة حقا فقد يكون الخلل في تقديراتنا لتكلفة المشروع.
و بالتالي فالتفاوض مسألة أعمق و هي شديدة الحساسية لأن خوضها دون ضوابط قد يؤثر على مبدأ المنافسة القاضي بالمساواة ما بين المتعهدين و بشفافية الإجراءات .. كما أن سوء ممارسة هذه الإمكانية قد يدفع بعض المصالح المتععاقدة إلى تحقيق نتائج عكسية من خلال سيعها إلى تخفيض مبلغ العرض على حساب الجودة..
أعتذر لك أخي لأن ضيق الوقت و محدودية المجال لا يسمح بالتعمق أكثر في الموضوع، و المهم أنها أفكار للمناقشة و البحث نحتاج جميعا إلى تبادل الآراء بشأنها.