أما التنمية الإقتصادية فهي مفهوم أكثر شمولا ووسعة من مفهوم النمو وهو المفهوم الذي يحدد مدى تقدم الدولة أو تخلفها إقتصادياً وإجتماعياً ودوليا، ولذلك تحرص كل الدول الجادة وذات الحكم الراشد، علي التنمية الإقتصادية وليس النمو الأقتصادي حتى يتم لها التقدم والتطورالحقيقي.
وهنا يجدر بنا التفريق بين مفهوم التنمية الحديثة , والمفهوم التقليدي للتنمية
فالتنمية الإقتصادية بالمفهوم التقليدي معناها هو سعة أو قدرة أي أقتصاد وطني ناشئ وبسيط أو راكد لفترة طويلة أن يحقق زيادة ونمو في ناتجه القومي بمعدل يتراوح بين خمسة إلى سبعة في المئة ويحافظ عليها. والناتج القومي هو مجموع كل السلع والمنتجات التي ينتجها إقتصاد بلد ما في فترة معينة. وهناك طريقة أخرى لحساب التنمية وهي حساب زيادة دخل الفرد ومعناها هو أن يزيد إنتاج البلد بصورة أسرع من زيادة نسبة السكان فيه. فالبلد الذي يستطيع أن يحقق دخل أعلى من عدد السكان بالتأكيد سترتفع فيه كمية الثروة التي يجينها كل مواطن بسبب كثرة المال وقلة الناس. ولكن هذا التعريف لم يغطي كل جوانب التنمية والسبب هو أن العديد من دول العالم الثالث ومن غيره سبق لها أن مرت بفترات نمو في الناتج القومي ولكن لم تتغير أوضاع الناس فيها كثيراً. فعلى سبيل المثال الإتحاد السوفيتي الذي كان إقتصاده في الخمسينات والستينات حديداً ولكن الروس لم يعرفوا الثراء والرخاء الذي عرفه الأمريكان ثم سرعان ما أنهار النظام الإقتصادي في الثمانينات وبداية التسعينات.
أما المفهوم الحديث للتنمية يشترط على الدولة أن توفر لكل أفراده جميع إحتياجاتهم الأساسية من غذاء ومسكن ورعاية صحية وحماية وأمن. يجب على الدولة أن يكون لها القدرة على رفع مستوى معيشة الأفراد عن طريق زيادة الدخل وتوفير فرص العمل وتقديم أفضل النظم التعليمية والأهتمام بكل القيم الإجتماعية والإنسانية وزراعة قيم الفضيلة والانتماء للوطن في نفوس المواطنين، والثقة بالنفس والقدرة على تحقيق الافضل دائما. ولذلك من أوجب واجبات الدولة توفير الحرية، خاصة حرية الراي والتعبير، وتقديم خيارات إقتصادية وإجتماعية متعددة للمواطنين، مع توفير كل الوسائل المادية التي تعينهم على حرية الإختيار في كل الجوانب.
تعتبرهذه مبادئ عامة لنجاح التنمية الاقتصادية، فالإقتصاد الذي حقق تنمية سيوفر للبلد الدخل المناسب، وينعم كل فرد فيه بحقوقه الاساسية من سكن وغذاء وأمن ورعاية صحية. أما الآن فلم تعد الدولة قادرة على توفير الوظائف فأصبح القطاع الخاص يوظف المواطنين بمرتبات زهيدة لا تفي بمتطلبات الحياة، كما أن التوظيف في القطاع العام يعتمد علي المحسوبية والولاء السياسي وشروط التمكين، كما لم تعد الدولة تقدم القروض والمنح والبعثات الدراسية، ورفعت يدها عن العلاج وتقديم الكثير من الخدمات الأخري، وزادت من الاعباء المالية علي المواطن الغلبان بفرض الكثير من الاتاوات والرسوم والضرائب المجحفة. فأصبح المواطن وللأسف عليه أن يرضى بما يقدم له وما هو متوفر، ولهذا لم يعد لديه ثقة في نفسه وفي إمكانياته فأصبح الكسب لديه لا يعتمد على مهارة أو قدرة بقدر ما هو يعتمد على الواسطة والحظ. وتسبب ضعف نمو الناتج القومي، في ظل زيادة الإستهلاك وعدم العدالة وسوء توزيع الثروات وضعف القطاع الخاص عن الإستثمار في البشر وفي والمشاريع، وزيادة الديون على الدولة نتيجة للصرف البذخي الغير مرشد مع إهمال الصرف علي مشاريع التنمية الحقيقية، وكل هذا يحتم علينا العمل والمحافظة على التنمية وليس النمو، حتي نتفادي هذه المشاكل المزمنة التي يعاني منها المجتمع السوداني.
وتعتبرالبطــالة والفـقـر من أهم المشاكل التي نعاني منها، ولا تزال هاتان هما الكلمتان اللتان تشغلان بال العديد من المفكرين والعلماء والساسة , و أصبح القضاء على الآثار المدمرة لهاتين الكلمتين هو شعار الجميع في العديد من البلدان النامية، من الحكومة الي المعارضة مرورا بمنظمات المجتمع المدني ومراكز البحوث والجامعات. وأصبت هتان الكلمتان شعارا لكثير من المنتديات الإقتصادية والاجتماعية , ولكن السؤال المهم هنا هو كيف أصبحت البطالة والفقر هما الخطرين الذين يهددان معظم شعوب العالم الثالث الفقير؟. وعندنا في السودان ياخذ هذا السؤال بعدا اخر، وهو كيف تحول شعب السودان الذي نما ناتجه القومي في الفترة ما بين 1998 – 2007 وكيف يصبح الشعب الذي يمتلك مقومات زراعية هائلة وثروات معدنية وبترولية ضخمة، وكفاءات وكوادر بشرية مؤهلة، مهدداً بالبطالة والفقر؟
أن الديون العامة والداخلية للدولة و النفقات المتزايدة والصرف الغير مرشد، وانتشار الفساد والحسوبية، وغيرها من الاسباب هي التي أدت إلى قصور الإقتصاد الكلي وضعفه المتمثل في إزدياد البطالة وإنتشار الفقر. فلقد شهدت بلادنا في الاونة الاخيرة نمواً إقتصادياً ولم تشهد تنمية إقتصادية , وهناك فرق شاسع بين النمو والتنمية، فقد يكون هناك نموا في القطاع الاقتصادي للدولة وبالرغم من ذلك لا تحدث تنمية، ويرجع ذلك بصورة أساسية لنظرة الدولة العامة ولوضع برامج التنمية كأولوية في سياساتها الاقتصادية الكلية. ومشكلتنا الاساسية هي في كيفية تحقيق التنمية الإقتصادية وليس النمو الإقتصادي وحسب، فقد نحقق نموا تنمويا عاليا ، ثم لا يكون هناك في الواقع أثر يذكر للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. ويجب أن يكون واضحا لنا الفرق بين كلا المفهومين وتبيينه حتى نعرف السبيل الحقيقي لكيفية تحقق التنمية وبصورة عادلة وفاعلة، وحتى لا تخدعنا الأرقام ونظن أننا في تطوروتقدم بينما نحن في الحقيقة والواقع في تخلف وتراجع في إنحدارمخيف ومفزع. لقد قادت سياساتنا الاقتصادية الكلية البلاد الي هاوية سحيقة من التخلف والتردي والتي تجلت بصورة واضحة في هذا الفقر المدقع الذي لف في ردائه القاتم غالبية الشعب السوداني الكريم، وأيضا في إنتشار البطالة السافرة والتي لم ينج منها احد، شيبا وشبابا، ذكورا وإناثا، في قمة هرم الكفاءات والخبرات النادرة، وفي أسفل الهرم عند العمالة الفنية المدربة والغير مدربة. ولا يخالجنا شك في أن الاسباب الاساسية في ذلك تنحصر في تلك السياسات الحكومية القاصرة، المتعجلة، الإنفرادية، والتي لايشرك فيها الجميع وانما ينفرد بصياغتها وبلورتها شخصيات محدودة، وبآليات لا تتفاعل مع الواقع السوداني المتجدد في احتياجاته والمتنوع في حاجاته. واكبر دليل علي ضعف سياساتنا الاقتصادية الكلية ما يجري بخصوص الميزانية الحالية للعام 2008م ، والتي سارت علي نهج سابقاتها في تركيز الصرف علي الامن والقوات المسلحة، والصرف البذخي علي الجهاز الحكومي المترهل، واغفال الصرف بالصورة المطلوبة علي التنمية والخدمات الاساسية، والتركيز علي المزيد من الجبايات والرسوم علي المواطن كمصدر اساسي للايرادات، وكل ذلك يعني مزيدا من البطالة والفقر!!!
د/ محمد الفاتح عبد الوهاب