الرئيسية
المزاج
من الثروة العربية إلى الثورة الإلكترونية
إعداد: عبدالكريم بجاجة
خبير في الأرشيف
مركز الوثائق و البحوث
1- المقدمة: البداية عربية:
عرف "الأرشيف" منذ القدم كمادة وثائقية تشهد على تاريخ الحضارات وعلى النشاطات الرسمية لمؤسساتها: مملكات ودول. إذن منذ البداية أخذ "الأرشيف" طابع رسمي يرمز إلى وجود نشاط مؤسسات، وهذا المفهوم بقي ساير المفعول إلى يومنا هذا، حتى ولو تغير شكل الأرشيف من الصلصال إلى الورق ثم إلى الإلكتروني، حتى ولو امتد مفهوم الأرشيف إلى كل الوثائق المنتجة من قبل جميع المؤسسات العامة والخاصة والجمعيات بل وحتى الأفراد، لأن هذا الإنتاج الأرشيفي يكتسب طابع إجباري بحكم النشاطات والممارسات اليومية.
من هذا المنطلق، يبدأ تاريخ الأرشيف مع الوثائق الرسمية في شكل لوحات من الصلصال التي اكتشفت في المشرق العربي، خاصة في العراق وسورية، والتي تشهد على تاريخ الحضارات التي تسلسلت في تلك البلاد العربية:
- في مصر الفراعنة وجدت مخازن لحفظ الأرشيف داخل المعابد؛
- في تل الحريري (سورية)، اكتشفت في سنة 1933م 25.000 لائحة في مخازن لحفظ الأرشيف بقصر ملوك "ماري"، يرجع تاريخها إلى القرن 31 قبل الميلاد، ويكتسب هذا الأرشيف الضخم طابع سياسي ودبلوماسي وقانوني واقتصادي؛
- كما أكتشف في العراق "قانون حامورابي" مؤسس دولة بابل في 1792- 1750 قبل الميلاد؛ نقش هذا القانون في مسلة من البازات وهي محفوظة حالياً بمتحف "Louvre" بباريس؛
- ونرجع إلى سورية وبالضبط قرب الاظقية لنذكر اكتشاف أرشيف مملكة أوقاريت (رأس شامرة) خاصة 200 وثيقة دبلوماسية واتفاقات دولية ورسائل الملوك تتعلق بالدفاع عن الحدود والأوامر الإدارية والتموين وتنظيم الحرف والعقود الخاصة، وجل الوثائق ترجع إلى القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد؛
- لنختم هذه السلسة من أقدم أرشيف في تاريخ الإنسانية بذكر اكتشاف لوحات أرشيف في قصر "أشوربانيبال" بنينوى (Assyria) يرجع تاريخها إلى القرن السابع قبل الميلاد، كتب عليها أوامر ملكية وأحكام قضائية وعقود خاصة...(1)
طوال التاريخ القديم والوسيط تغير شكل الأرشيف بدون ما يتغير المفهوم الرسمي إذ أصبح ينتج في الرق بدلاُ من الصلصال ثم في الورق عند الدخول في العهد الحديث.
كما تغيرت في العهد الحديث ظروف حفظ الأرشيف بتهيئة مراكز رسمية تابعة للسلطة في أوروبا.
أما البلاد العربية واصلت اهتمامها في حفظ الأرشيف تحت رعاية الخلافة العثمانية، ومن جمل الوثائق التي نجدها في كافة البلدان العربية مجموعة أرشيف "المحاكم الشرعية".
إذا تطور الوضع القانوني للأرشيف إلى "الأرشيف العمومي" في العهد الحديث، لم يصل بعد إلى مستوى "الأرشيف الوطني"، وللثورة الفرنسية دافع قوي للدخول بالأرشيف في عهد جديد.
2- الثورة الفرنسية تعلن "الأرشيف الوطني":
ظهر لأول مرة مصطلح "الأرشيف الوطني" مع الثورة الفرنسية في 1790، حين أتخذ قرار تغيير "أرشيف المجلس الفرنسي" إلى "الأرشيف الوطني"، ثم عين أول "أرشيفي للجمهورية" سنة 1793 وأول نظام للأرشيف الفرنسي الوطني والمحلي سنة 1794.
سرعان ما انتشر هذا المصطلح إلى أوروبا بإنشاء "أرشيف وطني" في بريطانيا (سنة 1838) وأسبانيا (1866) وفي البلدان الأوروبية الأخرى شيئاً فشيئا من سنة 1880 إلى 1910. أما في روسيا تأسس "الأرشيف الوطني" بموجب قرار لينين في سنة 1918 ليصبح فيما بعد نموذجا لكل بلدان أوروبا الشرقية؛ بينما انتظرت الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1934 لإنشاء "الأرشيف الوطني"، و بعد الحرب العالمية الثانية تأسس في باريس المجلس الدولي للأرشيف (1948)، ثم بعد إزالت الأنظمة الإستعمارية جاء دور بلدان العالم الثالث من بينهم البلدان العربية: مصر (1954)- الجزائر (1971)- تونس (1988)...(2)
3- الثورة الهندسية: انفجار إنتاج الأرشيف مع الحرب العالمية الثانية:
بعد تطور الأرشيف من ناحية الشكل وظروف الحفظ، وبعد تكريس مفهوم "الأرشيف الوطني"، عرف هذا الميدان ثورة حقيقية انفجرت مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، إذ بين عشية وضحاها أصبح الأرشيف ينتج بطريقة سريعة (هندسية) بدلاً من النظام القديم الذي تميز بإنتاج بطيء نوعاً ما (حسابي). أصبحت كل الإدارات المعنية بالحرب العالمية غارقة تحت تضخم الأرشيف لم تكن مهيأة لمجابهته:
- قبل الحرب، كان الإنتاج "حسابي عادي" = 1+1=2+1=3+1=4 +1=5....
- مع الحرب العالمية الثانية، أصبح الإنتاج "هندسي"= 1×1=2×2=4×4=16×16= 256...
كانت البحرية الأمريكية أول إدارة حربية شعرت بهذا المشكل، وأسست عشوائياً أول مركز لحفظ الفائض من الأرشيف "الأرشيف الوسيط" الذي لم يستعمل يوميا بل يحفظ كمرجع.
وتطورت هذه الفكرة – إنشاء مراكز لحفظ الأرشيف الوسيط خارج عن الإدارة – وانتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية، ثم قننت بموجب قرار اتخذ سنة 1950 لإعطاء طابع قانوني لهذه المراكز "Records Center". واستعملت لغرض الحفظ المؤقت للأرشيف بنايات خالية رممت وهيئت سريعاً وبدون تكاليف لأن الأرشيف يحفظ مدة محدودة قبل تحويله إلى الأرشيف الوطني أو إتلافه نهائياً.
وفي سنة 1956، صدر كتاب عن "T.R.Schellenberg" قدم فيه فلسفة جديدة لحفظ الأرشيف حسب المراحل الأساسية من حياته الإدارية و هي ثلاثة:
- العمر الأول للأرشيف (أقل من 5 سنوات) يحفظ داخل الإدارات؛
- العمر الثاني للأرشيف (من 5 إلى 15 سنة) يحفظ في مراكز الحفظ المؤقت؛
- والعمر الثالث للأرشيف (أكثر من 15 سنة) يحول إلى الأرشيف الوطني بعد عملية الفرز.(3)
وهكذا استفاد عالم الأرشيف من رؤية جديدة تهدف إلى التكفل به منذ إنشاءه وحمايته من الإتلاف العشوائي بحجة إنتاجه الهندسي.
ظهرت مصطلحات جديدة: بالإنجليزي ""Records Management، وبالفرنسي "Préarchivage" وبالعربي "الحفظ المؤقت"، لتقنين طريقة تحويل الأرشيف من مرحلة إلى مرحلة داخل وخارج الإدارة المنتجة، لتوظف الوثائق في تحسين إدارة المؤسسات قبل أن تستعمل في نهاية المطاف لكتابة التاريخ بطرق علمية موثقة (4).
ولكن لم يتوقف تطور الأرشيف إلى هذا الحد، بل عرف انقلابات أخرى جعلته مضطراً إلى وجود حلول مناسبة لمواجهة التحديات الجديدة.
4- الأرشيف في عهد العولمة:
بعد إنشاء المجلس الدولي للأرشيف سنة 1948 – تحت راية منظمة UNESCO– دخل عالم الأرشيف في مرحلة جديدة من مساره تميزت بإصدار نصوص تنظم هذا الميدان من جميع الجوانب، القانونية والتقنية والعلمية والمهنية ....
صدر عن UNESCO / ICA دليل خاص ببنايات الأرشيف وتجهيزاتها في سنة 1966 (5)- قدمت منه المقاييس الاساسية أثناء ندوة الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للأرشيف في الجزائر سنة 1993(6)- ثم نموذج لمخطط وطني لإنشاء المرافق الخاصة بالمكتبات والأرشيف في سنة 1975 (7).
واقترحت منظمة UNESCO نموذجاً لقانون خاص بالأرشيف، يفصل في 238 بند كيفية تنظيم ميدان الأرشيف في أي بلد:
- الهياكل= الأرشيف الوطني – الأرشيف الوزاري – الأرشيف الإقليمي والمحلي – مرافق الأرشيف – المفتشية العامة – الأمانة العامة – المجلس الوطني للأرشيف – اللجنة التنفيذية للأرشيف الوطني؛
- المعالجة العلمية للأرشيف = الرقابة – الترتيب والتصنيف – الفرز – التحويل؛
- الموارد البشرية = مدرسة عليا لتكوين الأرشيفين – النظام الأساسي للأرشيفين؛
- الأرشيف الخاص بالدفاع والخارجية؛
- الأرشيف الخاص بالأفراد والعائلات؛
- التزويد = الإهداء - الاقتناء – نزع الملكية للفائدة العامة (8) ...
ثم أصبح العمل في مجال الأرشيف بطريقة علمية في حاجة إلى توحيد المصطلحات الأرشيفية، لذا أصدر المجلس الدولي للأرشيف "قاموس المصطلحات الأرشيفية" في اللغتين الإنجليزية والفرنسي مرفقا بالمفردات المناسبة في اللغات الأوروبية: الهولندية- الألمانية- الإيطالية- الروسية والأسبانية.
وفي سنة 1990، صدر أولى "قاموس المصطلحات الأرشيفية" باللغة العربية إضافة للغات السبع المذكورة (9). ولكن مع مرور السنين ازدادت المصطلحات مع تطور العلم والتكنولوجية ليصبح القاموس العربي في حاجة إلى مفردات مناسبة لمجموعة 190 مصطلح جديد إنجليزي – فرنسي (10).
إن خصوصية مهنة الأرشيف تجعل هذا الميدان جزء من العلوم الإنسانية يدرس في الجامعات، وارتفاع نوعية هذا التكوين مرتبط بالتطبيق في مراكز الأرشيف، لكي يتلقى الأرشيفي تكوين كامل يجعله قادرا على مجابهة المشاكل الحقيقية التي تنتظره في دهاليز الأرشيف و المخازن العامة للدوائر الحكومية، بعيدة كل البعد عن النظريات الجامعية(11).
5- الثورة الإلكترونية-الانتقال من الأرشيف التقليدي إلى الأرشيف الإلكتروني:
فرض على الأرشيف الدخول في العالم الإلكتروني في الثمانينيات مع استخدام الإعلام الآلي في تسيير الأرشيف، وصدر مرة أخرى عن منظمة UNESCO نظام خاص بالمكتبات أولاً ثم للأرشيف ثانيا ،ً يهدف إلى المعالجة العلمية للوصف الأرشيفي: "Micro-CDS/ISIS" (12).
وتطلبت هذه الطريقة الجديدة للتعامل مع الأرشيف بطريقة الكمبيوتر إصدار تقنين دولي موحد للوصف الأرشيفي: "Norme ISAD(G)" في سنة 1994 (13)، شرح تطبيقه سنة 2000 (14).
إن المؤسسات الأرشيفية التي طبقت شيئاً فشيئاً كل المقاييس الدولية التي قدمناها اعتباراً من الحرب العالمية الثانية، كانت جاهزة تماماً للدخول في الألفية الثالثة مع انتشار شبكة INTERNET والتقنية الجديدة التي فرضتها: التصوير الرقمي "Digitalisation". أصبحت الآن كل مراكز الأرشيف عبر العالم مضطرة للدخول في العالم الإلكتروني، ويجب عليها تتبع نفس المسار العلمي المقنن دولياً:
- توحيد مفردات اللغة المستعملة في الوصف الأرشيفي للوصول إلى موسوعة أرشيفية وطنية (Thesaurus)؛
- إصدار قاموس المصطلحات الأرشيفية خاص بكل لغة انطلاقا من المصدر الإنجليزي(Dictionary of Archival Terminology)؛
- من ثم استخدام التقنين الدولي للوصف الأرشيفي(ISAD-G)؛
- التصوير بالميكروفيلم أو التصوير الرقمي باحترام المقياس الدولي: ؛(ISO 10196)
- التسيير العلمي للأرشيف وفقا للمقياس الدولي " ISO 15489” لتحسين سير الإدارة في كافة المؤسسات و الحفظ الدائم للأرشيف الإلكتروني (15)؛
- تحويل أدوات البحث المنتجة من قبل من الشكل التقليدي على الورق إلى الشكل الإلكتروني باستخدام المقياس الدولي “Encoded Archival Description” (16)؛
- على سبيل المثال قدر الأرشيف الوطني الفرنسي تكاليف العملية بمقدار 30.0002 يورو بإسنادها إلى شركات مختصة في تطبيق “EAD” (17) ؛
- اللجوء إلى مقياس دولي خاص لوصف البيانات المتعلقة بالأرشيف الإلكتروني:
The Dublin Core Metadata initiative (18) .
الخلاصة: أين العرب في عالم الأرشيف الإلكتروني؟
المراجع
BIBLIOGRAPHY
1- Jean Favier, "Les Archives", collection que sais-je?, PUF, 2001, 127 pages.
2- Michel Duchein, "Etudes d'Archivistique, 1957-1992", Association des archivistes français, 1992, 210 p.
3- T.R. Schellenberg, "Modern Archives: Principles and techniques", The University of Chicago Press, 1956 (1975), 247 p.
4- Abdelkrim Badjadja, "La formation des archives et le préarchivage", publication des archives de la Wilaya de Constantine, numéro 2/1980,18 p.
5- Michel Duchein, "Les bâtiments et équipements d'archives", ICA - UNESCO, 1966, 312 p.
6- Abdelkrim Badjadja, " L'expérience algérienne dans le domaine de la construction des centres d'archives", Revue ARBICA, numéro 17, 1993, pp.1-8.
7- J.H. d'Olier – Bruno Delmas, "Planning national infrastructure for Do*****entation, Libraries and Archives", UNESCO, 1975, 328 p.
8- Salvatore Carbone – Raoul Gueze, "Draft model LAW on archives: description and text", UNESCO, 1972, 225 p.
9- International Council on Archives, "Dictionary for Archival Terminology-معجم المصطلحات الأرشيفية ", Arab Scientific Publishers, Lebanon,1990, 278 p.
10- Abdelkrim Badjadja, "190 new terms of archival terminology in English and in French for translation in Arabic", Center for Do*****entation & Research, Abu Dhabi, 2003, 6 p.
", CDR, 2002, 3 p.برنامج تكوين الأرشيفيين 11- Abdelkrim Badjadja, "
12- UNESCO, "Micro CDS/ISIS", software developed by UNESCO, since 1985, updated 04/11/2003,
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] , [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
13- International Council on Archives, "ISAD (G)- General International Standard Archival Description", 1994 (revision 2000),
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
14- Margaret Procter – Michael Cook, "Manual of archival description", Grower (GB-USA), 2000, 300 p.
15- International Organisation for Standardization, "ISO 15489 / 1-2, Information and Do*****entation – Records Management", 2002: "search standard ISO 15489":http://www.iso.ch/iso/en/
16- Library of Congress – Society of American Archivists, "Encoded Archival Description (EAD)", Standard for encoding archival, 2002,
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
17- Direction des Archives de France, "Les archives électroniques, Manuel pratique", la Do*****entation Française, 2002, 103 p. [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
18- Dublin Core Metadata Initiative, since 1995 to 2003, [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
المصدر
