سأحاول أن ألقي الضوء على أحد أساليب الفساد الذي يأخذ طابعاً قانونياً، ويتضمن سرقة ونهباً للوطن والمواطن، ويشارك فيها أهل الكفاءة والعلم الذين هم الأساس في هذه القضية.:
قبل أن تعرض أي مؤسسة مشروعاً للتنفيذ، يجري إعداد دراسة من قبل اختصاصيين في المجال الذي يُراد بناؤه أو تشييده، إن كان شق طريق وتعبيده أو بناء مدرسة أو منشأة اقتصادية أو إدارية.. أو.. إلخ. وتتضمن الدراسة حساب التكاليف للأعمال الجزئية والكلية للمشروع بالأسعار الرائجة، حتى تأتي "مُقرّشة" كما يقال، مع الأخذ بالحسبان المدى العمري لهذه المشاريع والمنشآت. واستناداً إلى هذه الدراسة، يعلن المشروع للمناقصة، إن كان على مؤسسات القطاع العام أو على القطاع الخاص الذي يفوز بالمناقصة في أغلب الأحيان لأسباب معروفة للجميع. وبعد فضّ العروض، يقدم حسماً يصل في بعض الأحيان إلى 30% من قيمة الدراسة، أي من القيمة التقديرية المحددة لهذا المشروع أو ذاك. وهنا نتساءل: هل يعقل أن يكون هذا المتعهد خاسراً؟ أم أن الدراسة وهمية؟ أم أن فيها أخطاء أوإضافات تسمح بذلك؟
أعتقد أن أي متعهد لا يقدم عرضاً لتنفيذ أي مشروع خاسر، لأن هذا ليس منطقياً ولا معقولاً، فلماذا العذاب.. وفوقها الخسارة؟ ومعروف أن المتعهدين يعيشون دائماً في بحبوحة.. والسبب ليس معقداً أو شائكاً، كما يتصوره البعض، فنظرة فاحصة تبين لنا أساس "شطارتهم" وأرباحهم، وإنما يكمن بالشكل التالي:
إن اللجان الدارسة، وهي على ما أتوقع من الاختصاصيين، تعتمد أسعار المواد والكلف والأجور.. إلخ بأسعار معينة لنوعية معينة، والراجح أن تكون نوعية ممتازة. ولكن ماذا يحصل بعدئذ؟ يستلم المتعهد المشروع وينفذه بالطرق التي يراها مناسبة له، بأسوأ المواصفات ويصفها من يستلمها بأنها بأفضل المواصفات وفقاً للدراسة والعقد. فأول خطوة للمتعهد تكون التعرف على لجان الاستلام وتقديم فروض الاحترام لها مع الهدايا والبخشيش الملائم الذي يرضيه هم ضمنياً "لأن هذا حلال عليهم!" ويرضيهم لأنهم أحق من غيرهم بذلك، ولأن توقيعهم وموافقتهم هما الأساس في "الحرص على المصلحة العامة والنزاهة"، كما أن توقيعهم هم ضمانة نعمتهم! وبذلك تقسم الغنائم دون عناء وكل شيء موثق على الورق وقانوني ومدروس، ولا يمكن لأحد أو حساب أن يطولهم، فعلى الورق كل شيء نظامي ولا مشكلة في ذلك. أما على الأرض، فإن العيوب والنواقص تبدأ بالظهور تباعاً، ولكن لا أحد يلاحق الأمر أو ينتبه إلى أساس المشكلة! وهذا الباب من الغش والسرقة من أهم أبواب الفساد التي يتحدث عنها الجميع.
لذلك أقترح أن تكون اللجان الدارسة هي الأساس في استلام المشاريع التي درستها، وعلى أساس هذه الدراسة يتم التنفيذ والاستلام والمحاسبة، إضافة إلى اللجان الرقابية والمحاسبية المختصة في ذلك الشأن، والأفضل أن تعين الوزارات هذه اللجان في وقت الاستلام، وعلى أن لا تستمر هذه اللجان نفسها مدة طويلة، أي لجان عابرة للمحافظات.