وقف الشاب التقي عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز أمام أبيه الخليفة العادل بعدما ولي إمارة المؤمنين، وقال: يا أبت! مالك لا تنفذ الأمور؟ إِنِّي لأرَاك يَا أبتاه قد أخَّرْتَ أموراً كَثِيرَة، كنتُ أحسبك لَو وليت سَاعَة من النَّهَار عجلتها، فوالله! ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق! فقال له الوالد: «لا تعجل يا بُنَيَّ! فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة، فيدعوه جملة، ويكون من ذا فتنة! يا بني! إِنَّك على حسن قسم الله لَك، وفيك بعض رَأْي أهل الحداثة، وَالله مَا أَسْتَطِيع أَن أخرج لَهُم شَيْئا من الدّين إِلّا وَمَعَهُ طرف من الدُّنْيَا، أستلين بِهِ قُلُوبهم؛ خوفًا أَن ينخرق عَليّ مِنْهُم مَا لَا طَاقَة لي بِهِ. يا بني! إنني إن بادهت الناس بما تقول أحوجوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يحيا إلا بالسيف».
وواضح من هذا الخبر أن الشاب الغيور على الحق المتحمس لنصرة الدين يطلب من أبيه القضاء على المظالم والمفاسد وعلى كل آثار الانحراف التي ورثها أبوه عمن سبقه من الخلفاء الأمويين دفعة واحدة؛ دون تريث ولا أناة، بل إنه اتهم أباه بالتأخير والإبطاء في إنفاذ أمور كان يحسب أن أباه لو ولي الأمر ساعة واحدة لعجلها، ولم لا؟ أليس هو ولي الأمر وصاحب القرار؟ وتبلغ به الحماسة أن يقول لأبيه: «وإن غلت بي وبك القدور»، فكأنه يعلن عن استعداده للموت ميتة شنيعة من أجل الدفاع عن الحق الذي يعتقده.
ولكن الأب الذي خَبَرتْه الأيام، وأدرك الفقه الصحيح لسنن الله تعالى في التغيير وإصلاح الفساد يرشده إلى أن الوصول لهذا الهدف النبيل، وهو استقامة الناس على الحق وإقامة العدل، لا يُتَصوَّر حصوله بهذه الصورة التي يريدها هذا الشاب المتحمس، والصواب أن يجرَّع الناس الحق جرعة بعد جرعة، ويستند الخليفة الراشد في منهجه هذا إلى أمرين:
الأول: اهتداؤه بسنة الله تعالى، فالمعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان سبحانه وتعالى قادراً على خلقهما فيما لا يعد زماناً، والإنسان يمر بمراحل في بطن أمه حتى يخلق بشراً سوياً، وكان الحق سبحانه وتعالى قادراً على خلقه إنساناً متكاملاً بمجرد صدور الأمر «كن» فيكون.
سنّة التدرج
ثم إن سنة الله تعالى في التدرج في فرض الأوامر وتحريم المحرمات وإنزال التشريعات لا يجهلها مسلم، وها هو تحريم الخمر يبدأ ببيان أن الناس يسألون عن حكمها، ويعلِّمُ القرآنُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الجواب عن السؤال بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع للناس، ولكن الإثم أكبر من النفع، ثم يحظر القرآن على المسلمين الاقتراب من الصلاة وهم سكارى؛ مما يعني أن الذي يشربها لا يُقْدِم على صنيعه هذا إلا في الليل؛ لأن أوقات الصلاة في النهار متقاربة، ثم يأتي النهي الجازم والتحريم القاطع للخمر في كل وقت وحال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون» (المائدة: 90).
الأمر الثاني: تنبيهه إلى أن الخبرة العملية والتجربة الحياتية تقطع بأن حمل الناس على الحق جملة واحدة يغلب أن تحدث معه هزات كبيرة لهؤلاء الناس، قد يترتب عليها تركهم لهذا الحق جملة واحدة أيضاً، بل وانتكاستهم عن السير في طريق الاستقامة بالكلية، وقد فقهت عائشة رضي الله عنها هذا حين قالت: «إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لجارية ألعب (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).. (القمر: 46)، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده».
ألا ما أحكمه من فِقه، ألا إن البذرة الجيدة حتى تثمر الثمرة المرجوة منها تحتاج إلى تهيئة التربة الصالحة وإعداد البيئة المناسبة، ثم إزالة كل ما يعوق نموها النمو السليم.
وواضح من هذا الخبر أن الشاب الغيور على الحق المتحمس لنصرة الدين يطلب من أبيه القضاء على المظالم والمفاسد وعلى كل آثار الانحراف التي ورثها أبوه عمن سبقه من الخلفاء الأمويين دفعة واحدة؛ دون تريث ولا أناة، بل إنه اتهم أباه بالتأخير والإبطاء في إنفاذ أمور كان يحسب أن أباه لو ولي الأمر ساعة واحدة لعجلها، ولم لا؟ أليس هو ولي الأمر وصاحب القرار؟ وتبلغ به الحماسة أن يقول لأبيه: «وإن غلت بي وبك القدور»، فكأنه يعلن عن استعداده للموت ميتة شنيعة من أجل الدفاع عن الحق الذي يعتقده.
ولكن الأب الذي خَبَرتْه الأيام، وأدرك الفقه الصحيح لسنن الله تعالى في التغيير وإصلاح الفساد يرشده إلى أن الوصول لهذا الهدف النبيل، وهو استقامة الناس على الحق وإقامة العدل، لا يُتَصوَّر حصوله بهذه الصورة التي يريدها هذا الشاب المتحمس، والصواب أن يجرَّع الناس الحق جرعة بعد جرعة، ويستند الخليفة الراشد في منهجه هذا إلى أمرين:
الأول: اهتداؤه بسنة الله تعالى، فالمعلوم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وكان سبحانه وتعالى قادراً على خلقهما فيما لا يعد زماناً، والإنسان يمر بمراحل في بطن أمه حتى يخلق بشراً سوياً، وكان الحق سبحانه وتعالى قادراً على خلقه إنساناً متكاملاً بمجرد صدور الأمر «كن» فيكون.
سنّة التدرج
ثم إن سنة الله تعالى في التدرج في فرض الأوامر وتحريم المحرمات وإنزال التشريعات لا يجهلها مسلم، وها هو تحريم الخمر يبدأ ببيان أن الناس يسألون عن حكمها، ويعلِّمُ القرآنُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم الجواب عن السؤال بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع للناس، ولكن الإثم أكبر من النفع، ثم يحظر القرآن على المسلمين الاقتراب من الصلاة وهم سكارى؛ مما يعني أن الذي يشربها لا يُقْدِم على صنيعه هذا إلا في الليل؛ لأن أوقات الصلاة في النهار متقاربة، ثم يأتي النهي الجازم والتحريم القاطع للخمر في كل وقت وحال «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون» (المائدة: 90).
الأمر الثاني: تنبيهه إلى أن الخبرة العملية والتجربة الحياتية تقطع بأن حمل الناس على الحق جملة واحدة يغلب أن تحدث معه هزات كبيرة لهؤلاء الناس، قد يترتب عليها تركهم لهذا الحق جملة واحدة أيضاً، بل وانتكاستهم عن السير في طريق الاستقامة بالكلية، وقد فقهت عائشة رضي الله عنها هذا حين قالت: «إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار؛ حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لجارية ألعب (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر).. (القمر: 46)، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده».
ألا ما أحكمه من فِقه، ألا إن البذرة الجيدة حتى تثمر الثمرة المرجوة منها تحتاج إلى تهيئة التربة الصالحة وإعداد البيئة المناسبة، ثم إزالة كل ما يعوق نموها النمو السليم.
الدكتور ابراهيم علوان
أستاذ الشريعة الإسلامية المشارك بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بدبي